من التاريخ

الحضارة


ويليام ديورانت ..
الحضارة كالحياة صراع دائم مع الموت؛ وكما أن الحياة لا يتسنى لها أن تحتفظ بنفسها إلا إذا خرجت عن صورها البالية القديمة واتخذت لها صوراً أخرى فتية جديدة، فكذلك الحضارة تستطيع البقاء مزعزعة الأركان بتغيير موطنها ودمها.
ولقد انتقلت الحضارة من أوربا إلى بابل ويهوذا، ومن بابل إلى نينوى، ومن هذه كلها إلى برسيبوليس وسارديس وميليتس، ومن هذه الثلاثة الأخيرة ومصر وكريت، إلى بلاد اليونان ورومة.
وما من أحد ينظر الآن إلى موقع مدينة بابل القديمة ثم يخطر بباله أن هذه البطاح الموحشة ذات الحر اللافح الممتدة على نهر الفرات كانت من قبل موطن حضارة غنية قوية، كادت أن تكون هي الخالقة لعلم الفلك، وكان لها فضل كبير في تقدم الطب، وأنشأت علم اللغة وأعدت أول كتب القانون الكبرى، وعلمت اليونان مبادئ الحساب، وعلم الطبيعة والفلسفة، وأمدت اليهود بالأساطير القديمة التي أورثها العالم، ونقلت إلى العرب بعض المعارف العلمية والمعمارية التي أيقظوا بها روح أوربا من سباتها في العصر الوسيط.
وإذا ما وقف الإنسان أمام دجلة والفرات الساكنين، فإنه يتعذر عليه أن يعتقد أنهما النهران اللذان أرويا سومر وأكد وغذيا حدائق بابل المعلقة.
والحق أنهما إلى حد ما ليسا هما النهرين القديمين؛ وذلك لأن النهرين القديمين قد اختطا لهما من زمن بعيد مجريين جديدين "وقطعا بمناجلهما البيض شطآنا أخرى".
وكان نهرا دجلة والفرات كما كان نهر النيل في مصر طريقاً تجارياً عظيماً يمتد آلاف الأميال، وكانا في مجرييهما الأدنيين يفيضان كما يفيض نهر النيل في فصل الربيع ويساعدان الزراع على إخصاب الأرض. ذلك أن المطر لا يسقط في بلاد بابل إلا في أشهر الشتاء؛ أما فيما بين مايو ونوفمبر فإنه لا يسقط أبداً؛ ولولا فيضان النهرين؛ لكانت أرضهما جرداء كما كان الجزء الشمالي من أرض الجزيرة في الأيام القديمة، وكما هو في مثل هذه الأيام.
 ولكن بلاد بابل قد أضحت بفضل ماء النهرين الغزير، وكد الأهلين أجيالاً طوالاً، جنة الساميين وحديقة بلاد آسية القديمة وهُريها مما جاء في سفر التكوين أن الفرات واحد من أربعة أنهار تجري في الجنة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة