علمٌ وفكر

التصنيف في علم الأصول


السيد محمد باقر الصدر ..
...إن الحاجة إلى علم الأصول حاجة تاريخية فنستطيع أن نفسر الفارق الزمني بين ازدهار علم الأصول في نطاق التفكير الفقهي السني وازدهاره في نطاق تفكيرنا الفقهي الإمامي، فإن التأريخ يشير إلى أن علم الأصول ترعرع وازدهر نسبيًّا في نطاق الفقه السني قبل ترعرعه وازدهاره في نطاقنا الفقهي الإمامي، حتى إنه يقال:
إن علم الأصول على الصعيد السني دخل في دور التصنيف في أواخر القرن الثاني، إذ ألف في الأصول كل من الشافعي المتوفي سنة (182) ه‍ ، ومحمد بن الحسن الشيباني المتوفي سنة (189) ه‍ ، بينما قد لا نجد التصنيف الواسع في علم الأصول على الصعيد الشيعي إلا في أعقاب الغيبة الصغرى أي في مطلع القرن الرابع بالرغم من وجود رسائل سابقة لبعض أصحاب الأئمة (عليهم السلام) في مواضيع أصولية متفرقة.
وما دمنا قد عرفنا أن نمو التفكير الأصولي ينتج عن الحاجة إلى الأصول في عالم الاستنباط ، وأن هذه الحاجة تاريخية تتسع وتشتد بقدر الابتعاد عن عصر النصوص، فمن الطبيعي أن يوجد ذلك الفارق الزمني وأن يسبق التفكير الأصولي السني إلى النمو والاتساع، لأن المذهب السني كان يزعم انتهاء عصر النصوص بوفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، فحين اجتاز التفكير الفقهي السني القرن الثاني، كان قد ابتعد عن عصر النصوص بمسافة زمنية كبيرة تخلق بطبيعتها الثغرات في عملية الاستنباط، الأمر الذي يوحي بالحاجة الشديدة إلى وضع القواعد العامة الأصولية لملئها.
وأما الإمامية فقد كانوا وقتئذ يعيشون عصر النص الشرعي، لأن الإمام (عليه السلام) امتداد لوجود النبي (صلى الله عليه وآله)، فكانت المشاكل التي يعانيها فقهاء الإمامية في الاستنباط أقل بكثير إلى الدرجة التي لا تفسح المجال للإحساس بالحاجة الشديدة إلى وضع علم الأصول.
ولهذا نجد أن الأمامية بمجرد أن انتهى عصر النصوص بالنسبة إليهم ببدء الغيبة أو بانتهاء الغيبة الصغرى بوجه خاص، تفتحت ذهنيتهم الأصولية وأقبلوا على درس العناصر المشتركة، وحققوا تقدمًا في هذا المجال على يد الرواد النوابغ من فقهائنا من قبيل الحسن بن علي بن أبي عقيل ومحمد بن أحمد بن الجنيد الاسكافي في القرن الرابع.
ودخل علم الأصول بسرعة دور التصنيف والتأليف، فألف الشيخ محمد بن محمد بن النعمان الملقب بالمفيد المتوفي سنة (413) ه‍ ، كتابًا في الأصول وأصل فيه الخط الفكري الذي سار عليه ابن أبي عقيل وابن الجنيد قبله، ونقدهما في جملة من آرائهما.
وجاء بعده تلميذه السيد المرتضى المتوفي سنة (436) ه‍ ، فواصل تنمية الخط الأصولي وأفرد لعلم الأصول كتابًا موسعًا نسبيًّا، سماه الذريعة وذكر في مقدمته أن هذا الكتاب منقطع النظير في إحاطته بالاتجاهات الأصولية التي تميز الإمامية باستيعاب وشمول.
ولم يكن السيد المرتضى هو الوحيد من تلامذة المفيد الذين واصلوا تنمية هذا العلم الجديد والتصنيف فيه، بل صنف فيه أيضًا عدد آخر من تلامذة المفيد، منهم سلار بن عبد العزيز الديلمي المتوفي سنة (436) ه‍ ، إذ كتاب كتابًا باسم التقريب في أصول الفقه.
ومنهم الشيخ الفقيه المجدد محمد بن الحسن الطوسي المتوفي سنة (460) الذي انتهت إليه الزعامة الفقهية بعد أستاذيه الشيخ المفيد والسيد المرتضى، فقد كتب كتابًا في الأصول باسم العدة في الأصول وانتقل علم الأصول على يده إلى دور جديد من النضج الفكري، كما انتقل الفقه أيضًا إلى مستوى أرفع من التفريع والتوسع.
وكان يقوم في هذا العصر إلى صف البحث الأصولي عمل واسع النطاق في جمع الأحاديث المنقولة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ودمج المجاميع الصغيرة في موسوعات كبيرة، فما انتهى ذلك العصر حتى حصل الفكر العلمي الإمامي على مصادر أربعة موسعة للحديث، وهي الكافي لثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني المتوفي سنة (329) ه‍ ، ومن لا يحضره الفقيه للصدوق محمد بن علي بن الحسين المتوفي سنة (381) ه‍ ، والتهذيب للشيخ الطوسي ألفه في حياة الشيخ المفيد والاستبصار له أيضا. وتسمى هذه الكتب في العرف الامامي بالكتب الأربعة.