قرآنيات

الترجمة الحرفية للقرآن

 

الشيخ محمد هادي معرفة .. 
الترجمة الحرفية إن كانت بالمثل تماما، فمعناها: إفراغ المعنى في قالب لفظي يشاكل قالبه الأول في جميع خصوصياته ومميزاته الكلامية تمامًا، سوى كونه من لغة أخرى، الأمر الذي لا يمكن الإتيان به بشأن القرآن بتاتًا، لأن الإتيان بما يماثل القرآن نظمًا وأسلوبًا، هو الأمر الذي تحدى به القرآن الكريم كافة الناس لو يأتوا بمثله، وقد دلت التجربة على استحالته.
وإن كانت بغير المثل، بأن يقوم المترجم بإنشاء كلام يشاكل نظم القرآن حسب المستطاع، فهذا أمر ممكن في نفسه، إلا أنه حينئذ يفتقد الكثير من المميزات اللفظية والمعنوية التي كان القرآن مشتملًا عليها، وكانت من دلائل الإعجاز لا محالة.
كما أنه إذا غير الكلام إلى غير لفظه وبسوى نظمه ولا سيما بغير لغته، فهذا لا يعد من كلام المتكلم الأول، لأن من مقومات كلام كل متكلم هو البقاء على نفس الكلمات والتعابير والنظم والأسلوب الذي جاء في كلامه، فإن غير في أحد المذكورات، فإنه يصبح أجنبيًّا عنه ولا يعد من كلامه البتة، الأمر الذي لا يحتاج إلى مزيد بيان.
وعليه فلو كان كلام خاص، يحمل قدسية خاصة، وله أحكام خاصة به، وباعتبار انتسابه إلى متكلم خاص، فإن هذه الميزة سوف تذهب بأدنى تغيير شكلي في كلامه فكيف إذا كان تغييرًا في الكلمات والألفاظ من غير اللغة، ومغيرًا للنظم والأسلوب أيضًا ولو يسيرًا، الأمر الذي يتحقق في الترجمة الحرفية لا محالة.
من أجل ذلك نرى الفقهاء (1) - ولا سيما فقهاء الإمامية - متفقين على عدم إجزاء القراءة بغير العربية في الصلاة، حتى على العاجز عن النطق بالعربية، وإنما يعوض بآيات أخرى، أو دعاء وتهليل وتسبيح إن أمكن أما الفارسية أوغيرها فلا تجوز إطلاقا، اللهم إلا بعنوان الذكر المطلق، إذا جوزناه بغير العربية، وفيه إشكال أيضًا.
قال المحقق الهمداني: يعتبر في كون المقرؤ قرآنًا حقيقة، كونه بعينه هي الماهية المنزلة من اللّه تعالى على النبي (ع) مادة وصورة، وقد أنزله اللّه بلسان عربى، فالإخلال بصورته التي هي عبارة عن الهيئات المعتبرة في العربية بحسب وضع الواضع كالإخلال بمادته، مانع عن صدق كونه هي تلك الماهية (2).
وقال: ولا يجزئ المصلي عن الفاتحة ترجمتها، ولو بالعربية فضلا عن الفارسية، اختيارًا بلا شبهة، فإن ترجمتها ليست عين فاتحة الكتاب المأمور بقراتها، كي تكون مجزئة (3).
قال - بشأن العاجز عن العربية: الأقوى عدم الاعتبار بالترجمة - في حالة العجز عن الفاتحة وبدلها ﴿من قرآن غيرها أوتحميد وتسبيح﴾ - من حيث هي أصلا، ضرورة عدم كونها قرآنًا ولا ميسوره، بعد وضوح أن لألفاظ القرآن دخلًا في قوام قرآنيتها نعم بناء على الاجتزاء بمطلق الذكر لدى العجز عن قراءة شي من القرآن مطلقًا، أو لدى العجز عن التسبيح والتحميد والتهليل أيضًا، اتجه الاجتزاء بترجمة الفاتحة ونظائرها، لا من حيث كونها ترجمة للقرآن، بل من حيث كونها من مصاديق الذكر، وأما ترجمة الآيات التي هي من قبيل القصص فلا يجتزئ بها أصلًا، بل لا يجوز التلفظ بها لكونها من الكلام المبطل (4).
وهذا إجماع من الإمامية: إن ترجمة القرآن ليست بقرآن وفي ذلك أحاديث متظافرة عن النبى والأئمة الصادقين (ع):
قال رسول اللّه (ع): ﴿تعلموا القرآن بعربيته﴾.
وعن الإمام الصادق (ع):﴿تعلموا العربية، فإنها كلام اللّه الذي كلم به خلقه ونطق به للماضين﴾ (5).
ولا يزال الفقهاء يفتون بالمسائل التالية:
1- من لا يعرف قراءة الحمد، يجب عليه التعلم.
2- ومن تعذر عليه تعلمها استبدل من قراءتها ما تيسر من سائر آيات القرآن.
3- ومن لم يتيسر له ذلك أيضًا يعوض عنه بما يعرفه من أذكار وأدعية على قدر سورة الفاتحة (6)، بشرط أدائها بالعربية.
4- وإذا كانت الترجمة لا تصدق عليها عنوان الذكر أو الدعاء، فغير جائزة البتة.
5- وإذا كانت من قبيل الدعاء والذكر فتجوز في الدرجة الثالثة، بناء على جواز الدعاء بغير العربية في الصلاة، وهو محل خلاف بين الفقهاء.
والخلاصة: ان فقهاء الإمامية متفقون على عدم إجراء أحكام القرآن - بصورة عامة - على ترجمته، بأية لغة كانت ويوافقهم على هذا الرأي أصحاب سائر المذاهب من عدا أبي حنيفة وأصحابه، فقد أجازوا في الصلاة قراءة ترجمة الفاتحة بالفارسية استنادًا إلى ما روي: أن الفرس كتبوا إلى سلمان الفارسي ﴿رض﴾ أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية، فكانوا يقرأون ذلك في صلاتهم، حتى لانت ألسنتهم للعربية.
أما أبو حنيفة فقد أجاز ذلك مطلقاً، وأما صاحباه ﴿أبو يوسف ومحمد﴾ فقد أجازا لمن لا يحسن العربية (7) وكان الحبيب العجمي - صاحب الحسن البصري - يقرأ القرآن في الصلاة بالفارسية، لعدم انطلاق لسانه باللغة العربية (8).
وقد أفتى بالجواز - عند العجز - الشيخ محمد بخيت، مفتي الديار المصرية - سابقًا - فتوى لأهل الترانسفال، استنادا إلى فعلة الحبيب العجمي (9)، وسياتي تفصيل ذلك مشروحا.

هذا ومن ناحية أخرى فإن الترجمة الحرفية ﴿تحت اللفظية﴾ تخون في التأدية ولا تفي بإفادة المعنى المراد في كثير من الأحيان، إن لم تشوه المعنى وتشوشه على أذهان القراء والمستمعين، على ما سبق بعض الأمثلة على ذلك، وسيأتي مزيد بيان.
وعليه فقد صح القول: بأن الترجمة الحرفية تذهب بروائع الكلام، فضلا عن بلاغته الأولى التي كانت من أهل دلائل الإعجاز في القرآن، كما لم يصح إسناد الترجمة إلى صاحب الكلام الأول، بعد تبديله إلى غيره لفظًا وأسلوبا وأخيرًا فإنها تخون في تأدية المراد في كثير من الأحيان، الأمر الذي يحتم ضرورة اجتنابها، ولا سيما في مثل القرآن العظيم.

1- من عدا ابي حنيفة ومن رأى رأيه، حسبما يأتي.
2- راجع: مصباح الفقيه، كتاب الصلاة، ص 273.
3- المصدر نفسه، ص 277.
4- مصباح الفقيه، كتاب الصلاة، ص 282.
5- راجع: وسائل الشيعة للشيخ حر العاملي، ج4، ص 865-866، الباب ﴿30﴾ من كتاب الصلاة، رقم 1و2.
6- الوسائل، ج4، ص 735.
7- راجع: المبسوط للسرخسي، ج1، ص 37.
8- شرح مسلم الثبوت، بنقل المراغي شيخ الازهر في رسالته ﴿بحث عن ترجمة القرآن﴾،ص 17.
9- الادلة العلمية لفريد وجدي، ص 58.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة