علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

الإيمان بالقدر خيره وشرّه


الشيخ جعفر السبحاني ..
القدر كما ذكره بعض أئمّة اللغة. حدّ كلّ شيء ومقداره. والقضاء بمعنى الحكم البات ، قال سبحانه : ( إِنّا كَّلّ شَيء خَلَقْناهُ بِقَدَر ) وقال تعالى : ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّإِيّاهُ ).
وعلى هذا فالقدر في الأشياء ، هو تحديد وجود الشيء والقضاء هو إبرامه ، ويؤيد ذلك ما روي عن بعض أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ : القدر هو الهندسة ووضع الحدود في البقاء والفناء ، والقضاء هو الإبرام وإقامة العين.
القول بالقضاء والقدر على نحو الإجمال من العقائد الإسلامية التي لا يصحّ لمسلم إنكارها ، ولو كان هناك اختلاف فإنّما هو في تفسيرهما وأنّه هل القضاء والقدر بمعنى التقدير والحتم على أفعال الإنسان وخلقها بلا إرادة واختيار منه ، وأنّه في مسرح الحياة مكتوف اليدين فيما كتب وقدر عليه حتى فيما يتعلّق بالتكاليف ( الحلال والحرام ) أو أنّه بمعنى علمه السابق ، على وجود الأشياء وتقديره وتحديده والحكم بوجودها على وجه لا ينافي اختيار العبد وحريته من الأساس ، إن شئت قلت : ثبوت الأمر الجاري في العلم الأزلي الإلهي مع إعطاء القدرة على الفعل والترك وتعريف الخير والشر ، وبيان عاقبة الأوّل ومغبة الأخير ، فهذا العلم السابق لا يستلزم جبراً ، وعلمه سبحانه بمقادير ما يختاره العباد من النجدين وما يأتون به من العمل من خير أو شر لا ينافي التكليف ، كما لا سببية له في اختيار المكلّفين ولا يقبح معه عقلاً ، العقاب على المعصية ولا يسقط معه الثواب على الطاعة.
أمّا سبق علمه سبحانه على خصوصيات الفعل وتحقّقه وعدمه ، فيكفي في ذلك قوله سبحانه : ( ما أَصابَ مِنْ مُصيبَة فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتاب مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلى اللّه يَسير ). وقوله سبحانه : ( وَكُلّ شَيء فَعَلُوهُ فِي الزُّبُر* وَكلُّ صَغيروَكَبِير مُسْتَطَر ). وقال عزّ من قائل : ( ما قَطَعْتُمْ مِنْ لينَة أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصولِها فَبِإِذنِ اللّه ).
وأمّا كون القدر والقضاء لا ينافي التكليف ، فيكفي قوله سبحانه : ( إِنّا هَدَيْناهُ السَّبيلَ إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً ) وقوله سبحانه : ( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَين ). وقوله سبحانه : ( وَمَنْ يَشْكرْ فَإِنّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَميد ). فاللّه سبحانه خلق الإنسان مزيجاً من العقل والنفس مع خلق عوامل النجاح تجاه النفس الأمّارة بالسوء ، فمن عامل بالطاعة بحسن اختياره ، ومن مقترف للمعصية بسوء الخيرة. وتدلّ على ذلك الآيات التالية : ( فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيرات ). ( فَمَنِ اهْتَدى فَإِنّما يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها). ( مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون ). ( فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَليْها ). ( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ).
إلى غير ذلك من الآيات التي تنصّ على حرية الإنسان في اختياره خصوصاً فيما يرجع إلى الطاعة والمعصية.


إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة :
إنّه سبحانه « يعلم ما في السماء والأرض إنّ ذلك في كتاب إنّ ذلك على اللّه يسير » وفي ضوء ذلك نعتقد بأنّه سبحانه يعلم أعمارنا وأرزاقنا وما يجري في حياتنا من الأحداث ، وما نقوم به من الأفعال كما يعلم مواعيد وفاتنا والكلّ موجود في « كتاب مُبِين ».
لكن علمه السابق بما يجري في صحيفة الكون لا يجعل الإنسان مكتوف اليد أمام الملابسات التي حوله ولا يصيره كالريشة في مهب الريح ، بل هو في الكون محكوم من جهة ومختار من جهة أُخرى ، محكوم بالسنن العامة السائدة على الكون والحياة ولا يمكن الخروج عنها ، مختار في ما تتعلق به إرادته وفي موقفه من الملابسات التي حوله.
فالنوازل والمصائب والحروب الطاحنة تنتابه ، شاء أم لم يشأ والموت يدمّر حياته وكيانه والسموم القتالة تهلكه والجراثيم الضارية تنحرف بها صحته ، ولكنّه غير مسؤول أمام هذه الأُمور الخارجة عن اختياره ، ولكنّه أمام نعمه سبحانه والإمكانيات التي حوله أمام خيارين : فله أن يستفيد منها بما يمد حياته في الدنيا ويسعده في الآخرة كما أنّ له خلاف ذلك. فلو قلنا : الإنسان مخيَّر لا مسيّر ، فإنّما نريد هذا الجانب الثاني ، ولو قيل إنّه مسيّر لا مخيّر ، فلابدّ أن يراد منه الجانب الأوّل. ثمّ إنّ في الذكر الحكيم آيات ودلالات وتصريحات على كون الإنسان مخيراً ، وهي على حدّ لا يمكن جمعها في مقام واحد.

يقول اللّه لِكلِّ بشر على ظهر الأرض : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ القَيِّمِ مِنْ قَبل أَنْ يَأْتِيَ يَومٌ لا مَردَّ لَهُ مِنَ اللّهِ يَومَئِذ يَصَّدّعُون* مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُون ) ، فهل ربط الجزاء بالعمل هنا من قبيل المزاح أو الخديعة؟
وعندما يصف ربّنا جزاء الكذبة والمكّذبين ويبيّن عقبى عملهم ويقول : ( فَلَنُذيقَنَّ الّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَديداً وَلَنَجزِيَنَّهُمْ أَسوأ الَّذي كانُوا يَعْمَلُونَ* ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءاللّه النّار لَهُمْ فِيها دارُ الخُلْد جَزاءً بِما كانُوا بِ آياتِنا يَجْحَدُون) هل هذا الربط المتكرر بين العمل والجزاء؟ وهل هذه النقمة المحسوسة على المجرمين تومئ من قرب أو بعد إلى أنّ القوم كانوا أهل خير فلوى زمامهم قدر سابق أو كتاب ماحق؟ ما أقبح هذا الفهم! في يوم الحساب يحصد الناس ما زرعوا لأنفسهم. والقرآن حريص كلّ الحرص على إعلان هذه الحقيقة وهي أنّك واجد ما قدمت لن تؤخذ أبداً بشيء لم تصنعه ، لم تغلب على إرادتك يوماً فيحسب عليك ما لم تشأ. إنّ المغلوب على عقله أو قصده لا يؤاخذ أبداً بل إنّ التكليف يسقط عنه.


وتدبر قوله تعالى : ( أَلْقيا في جَهَنَّمَ كُلَّ كَفّار عَنِيد* مَنّاع لِلْخَيْرِ مُعْتَد مُرِيب* الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللّه إِلهاً آخَرَ فَألقِيَاهُ فِي العَذابِ الشَّدِيد* قالَ قَرينُهُ رَبّنا ما أَطغيتُهُ ولكِن كَانَ فِي ضَلال بَعيد ) ربّنا سبحانه وتعالى ينفي الظلم عن نفسه ويقول إنّه ما عذب إلاّ من فرط وأساء. وعلى ذلك فهنا أمران مسلّمان لا يصح لأحد إنكار واحد منهما :
١ ـ إنّ للّه سبحانه علماً سابقاً على كلّ شيء ، ومنه أعمال العباد ويعبر عنه بالقدر والتقدير.
٢ ـ الإنسان مخيّر في ما تتعلّق به إرادته ومحكوم فيما هو خارج عن إطار إرادته. وللمسلم الواعي الجمع بينهما على وجه صحيح ....
وعلى ذلك فالاعتقاد بالتقدير والقضاء أمر لا يمكن لمسلم إنكاره كما أنّ حرية الإنسان في مجال التكليف مثله أيضاً، فإذاً ما هو الذي وقع مثاراً للنقاش؟
في النصف الثاني من القرن الأوّل بل قبله بقليل أيضاً ، انتشر القول بالقدر حتى فرق المسلمين إلى قولين : إلى قدري وجبري ، ولكن قد عرفت أنّ القدرية مع أنّها في اللغة بمعنى مثبتة القدر يراد منه في المصطلح النافون للقدر.
لابدّ من أن نقف ملياً للتأمل في تشخيص النزاع بين الطرفين.


فنقول : إنّ التأمّل في عقائد بعض العرب في الجاهلية يوحي بأنّهم كانوا قائلين بالقدر ومثبتين له بشكل يستنتجون منه سلب المسؤولية عن أنفسهم وإلقاءها على عاتق القدر. وهذا التفسير كان رائجاً بينهم وإن لم يعم الجميع ، يقول سبحانه : ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيء كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْم فَتُخرجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تخرصُون ).
ولعلّ قوله سبحانه : ( وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاء أَتَقُولُونَ عَلى اللّهِ ما لا تَعْلَمُون ) يشير إلى أنّهم كانوا يعتذرون بأنّ تقديره سبحانه يلازم الجبر ونفي الاختيار ، واللّه سبحانه يرد على تلك المزعمة بهذا القول.
فقد بقيت هذه العقيدة الموروثة من العصر الجاهلي في أذهان بعض الصحابة ، فقد روى الواقدي في مغازيه عن أُمّ الحارث الأنصارية وهي تحدث عن فرار المسلمين يوم حنين قالت : مرّ بي عمر بن الخطاب ( منهزماً ) فقلت : ما هذا؟ فقال عمر : أمر اللّه.
والعجب أنّ تلك العقيدة بقيت في أذهان بعض الصحابة حتّى بعد رحلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهذا السيوطي ينقل عن عبد اللّه بن عمر أنّه جاء رجل إلى أبي بكر فقال : أرأيت الزنى بقدر؟ قال : نعم ، قال : فإنّ اللّه قدّره علي ثمّ يعذّبني؟! قال : نعم يابن اللخناء ، أما واللّه لو كان عندي إنسان أمرته أن يجأ أنفك.
لقد كان السائل في حيرة من أمر القدر ، فسأل الخليفة عن كون الزنى مقدّراً من اللّه أم لا؟ فلمّا أجاب الخليفة بنعم ، استغرب من ذلك لأنّ العقل لا يسوغ تقديره سبحانه شيئاً بمعنى سلب الاختيار عن الإنسان في فعله أو تركه ثمّ تعذيبه عليه ، ولذلك قال : فإنّ اللّه قدره علي ثمّ يعذبني؟ فعند ذاك أقرّه الخليفة على ما استغربه وقال : نعم يابن اللخناء.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد