علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

علل تكوّن الفرق الإسلامية


الشيخ جعفر السبحاني ..
إنّ الوقوف على تاريخ الفرق الإسلامية ، وكيفية تكوّنها والعلل الباعثة على نشأتها ، من الأبحاث المهمة التي تعين الباحث في تقييم المذاهب الإسلامية ومدى إخلاص أصحابها في نشرها وبثها بين الأُمّة ، وهذه النقطة الحسّاسة من علم الملل والنحل ، قد أهملت في كثير من كتب الفرق والنحل إلاّ شيئاً قليلاً لا يشبع نهمة الطالب ، ونحن نأتي في هذه العجالة بإجمال ما وقفنا عليه في تاريخ تكوّنها والبواعث الموجدة لها ، وأمّا الإسهاب في البحث فموكول إلى آونة أُخرى.
لبّى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله دعوة ربّه وانتقل إلى جواره وترك لأُمّته ديناً قيماً عليه سمات من أبرزها « بساطة العقيدة ويسر التكليف » وأخذ المسلمون يفتحون البلاد بقوة المنطق أوّلاً وحدّ السلاح ثانياً ، وأخذت قوى الكفر والشر تنسحب أمام دعاة الإسلام وجنوده البواسل ، وتنصاع لهداه البلاد إثر البلاد.
ارتحل الرسول الصادع بالحق ، وترك بين أُمّته كتاب اللّه العزيز الذي فيه تبيان كل شيء ، وسنّته الوضّاءة المقتبسة من الوحي ، السليم من الخطأ ،  المصون من الوهن وعترته الطيبين الذين هم في لسان نبيّهم قرناء الكتاب.
فالمسلمون الأوّلون في ضوء بساطة العقيدة وسهولة التشريع وفي ظل هذه الحجج والأدلة القويمة ، كانوا في غنى عن الخوض في أقوال المدارس العقلية والمناهج الكلامية التي كانت دارجة بين الأُمم المتحضّرة آنذاك ، فهم بدل الغور فيها ، كانوا يخوضون غمار المنايا ويرتادون ميادين الحروب في أقطار العالم وأرجاء الدنيا لنشر الدين والتوحيد ومكافحة شتى ألوان الشرك والثنوية ومحو العدوان والظلم عن المجتمع البشري.
نعم كان هذا وصفهم وحالهم إلاّ شذاذاً منهم من الانتهازيين ، عبدة المقام وعشاق المال ممن لم تهمّهم إلاّ أنفسهم وإلاّ علفهم وماؤهم ، وقد قلنا إنّ بساطة التكليف كانت إحدى العوامل التي صرفت المسلمين عن التوجه والتعرض للمناهج الفلسفية الدارجة في الحضارات القائمة آنذاك ، فلأجل ذلك كانوا يكتفون مثلاً في معرفة اللّه سبحانه بقوله عزّ من قائل : ( أَفِي اللّه شَكٌّ فاطرِ السَّمواتِ والأَرضِ ) ، وقوله عزّ جلّ : ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْء أَمْ هُمُ الْخالِقُون ). وفي نفي الشرك والثنوية كانوا يكتفون بقوله سبحانه : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسَدتا ). وفي التعرّف على صفاته وأفعاله بقوله سبحانه : ( هُوَ اللّهُ الَّذي لاإِلهَ إِلاّهُوَ عالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحيم ) ، إلى آخر سورة الحشر. وفي تنزيهه عن التشبيه والتجسيم بقوله سبحانه : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّميعُ الْبَصير ) ، وبقوله : ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصار ). وفي سعة قدرته : ( وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ). إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول المبدأ والمعاد وما يرجع إليهما من الأبحاث الكلامية الغامضة ، فلكلّ واحدة من هذه المسائل نصوص في الكتاب والسنّة وهي أغنتهم عن الرجوع إلى غيرهم.
نعم إنّ مفاهيم هذه الآيات على بساطتها تهدف إلى معان بعيدة الأغوار ، عالية المضامين ، فالكلّ يستفيد منها حسب مقدرته واستعداده فهي هادية لكلّ البشر ومفيدة لجميع الطبقات من ساذجها إلى متعلّمها ، إلى معلمها ....
وهذه الميزة يختصّ بها القرآن الكريم ويتميّز فيها عن غيره ، فهو مع كونه هدى للناس عامة ، خير دليل للمفكّرين صغارهم وكبارهم.
هذا هو الكتاب ، وأمّا السنّة فهي عبارة عمّا ينسب إلى النبي من قول أو فعل أو تقرير ، نازلة منزلة التفسير والتبيين لمعاني الكتاب الحكيم ، مبينة لمجمله ، شارحة لمعانيه كما يعرب عنه قوله سبحانه : ( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) ، أي لا لتقرأ فقط ، بل لتبيّن وتشرح ما نزل ، بقولك وفعلك وتقريرك.
وأمّا العترة فيكفي في عصمتهم وحجية أقوالهم ، حديث الثقلين الذي تواتر نقله ، وقام بنقله أكابر المحدّثين في العصور الإسلامية كلّها.
وكان اللائق بالمسلمين والواجب عليهم مع الحجج الإلهية ، التمسّك بالعروة الوثقى ورفض الاختلاف ، ولكن يا للأسف تفرقوا إلى فرق وفرق لعلل نشير إليها.

إنّ لتكوّن المذاهب الإسلامية ـ أُصولاً وفروعاً ـ عللاً وأسباباً ومعدات وممهدات ولا يقوم بحقّ بيانها الباحث إلاّ بإفراد كتاب خاص في هذا الموضوع ، ولكن نشير في هذه العجالة إلى العوامل الرئيسية في تكوّن الفرق ونشوئها في المجتمع الإسلامي وهي أُمور :
١ ـ الاتجاهات الحزبية والتعصبات القبلية.
٢ ـ سوء الفهم واعوجاجه في تحديد الحقائق الدينية.
٣ ـ المنع عن كتابة حديث رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ونقله والتحدّث به كما سيجيء.
٤ ـ فسح المجال للأحبار والرهبان للتحدّث عن قصص الأوّلين والآخرين.
٥ ـ الاحتكاك الثقافي واللقاء الحضاري بين المسلمين وغيرهم من الفرس والروم والهنود.
٦ ـ الاجتهاد في مقابل النصّ.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد