قرآنيات

أنواع معرفة القرآن 1


الشهيد مرتضى المطهري ..
إن لمعرفة كل كتاب ودراسته، عموما طرقًا ثلاثة:
 الأول: المعرفة السندية أو الانتسابية
في هذه المرحلة، نسعى لمعرفة مدى انتساب الكتاب إلى مؤلفه.فلنفترض أننا نريد معرفة ديوان حافظ الشيرازي أو خيّام.إن الخطوة الأولى هي أن نرى إن كان ما يطلق عليه اسم ديوان حافظ كله من نظم حافظ، أو إن بعضًا منه فقط من نظمه، وإن بعضه الآخر مضاف إليه.كذلك الأمر بشأن خيام وغيره.
وهنا تبرز قضية تعدد النسخ، وعلى الأخص أقدمها تاريخًا واكثرها اعتبارًا، فنلاحظ إن أيًّا من هذه الكتب لا يستغني عن المعرفة والتمحيص.فديوان حافظ الذي طبعه المرحوم القزويني، إستنادًا إلى اكثر النسخ اعتبارًا، يختلف اختلافًا بينًا عن دواوين حافظ المعروفة التي طبعت في إيران أو في بمبي، والتي يحتفظ بها الناس في دورهم.فالدواوين التي طبعت قبل 30 أو 40 سنة تكاد تبلغ ضعفي حجم الدواوين التي يعتمدها الباحثون اليوم.على الرغم من أننا نجد بين الأشعار التي يعتبرها الباحثون منحولة أبياتًا لا تقل جودة عن شعره الموثوق.
 وعندما ننظر إلى الرباعيات المنسوبة إلى خيام نجد ثمة 200 رباعية تكاد تكون متقاربة المستوى ولا يتعدى ما فيها من اختلاف تلك الحدود المتعارف عليها عند الشعراء.ولكننا كلما تقدمنا تاريخًا مقتربين من عصر الخيام نجد أن ما لا يشك في نسبته إلى الخيام من ذلك العدد لا يتجاوز عشرين رباعية.والباقي إما أن يكون مشكوكًا في انتسابه إليه، أو أنه لشعراء آخرين حتمًا.
وعليه، فإن المرحلة الأولى في معرفة كتاب ما هي أن ننظر إذا كان ما بين أيدينا يمكن إسناده إلى مؤلفه أم لا.وإلى أي مدى يصح ذلك.هل إن مستنداتنا تؤيد كل ما بين أيدينا، أم أنها تصح على بعض دون بعض؟ وفي هذه الحالة، ما هي النسبة المئوية لصحة المنسوب إلى المؤلف؟ ثم ما دليلنا على صحة الانتساب، أو على الشك في الانتساب؟.
 إن القرآن غني عن هذا النوع من المعرفة، وهو، لهذا السبب، كتاب فريد بابه في العالم القديم، فما من كتاب بين الكتب القديمة يمكن أن تمر عليه قرون طويلة ويبقى مع ذلك لا تناله شبهة أو اعتراضات من قبيل أن تكون السورة الفلانية مشكوكًا فيه، أو أن الآية الفلانية موجودة في النسخة الفلانية وغير موجودة في غيرها، ليس مطروحة أساسًا.إن القرآن متقدم على النسخ وعلم المعرفة بالنسخ، فليس ثمة أدنى شك في إن الذي أتى بجميع تلك الآيات هو محمد بن عبد الله (ص) على اعتبار أنها معجزة، وأنها كلام الله.وإن أحدًا لا يستطيع أن يدعي بوجود نسخة مختلفة من القرآن، ولا الزعم باحتمال وجودها.ولم يظهر من المسشرقين أحد يحاول تناول القرآن من هذه الناحية، ليقول إن علينا أن نبحث عن نسخ القرآن القديمة جدًّا لكي نرى ما فيها وما ليس فيها ولئن كانت كتب مثل التوراة والأنجيل والأفستا، أو مثل "شاهنامة" فردوسي و"لستان" سعدي وغيرها تستلزم هذه الطريقة، فإن القرآن غني عن كل ذلك.
في هذا الموضوع سبق أن قلنا إن القرآن متقدم على النسخ والعلم بالنسخ، فهو فضلًا عن كونه كتابًا مقدسًا سماويًّا وينظر إليه أتباعه من هذا المنظور، فإنه أقوى دليل وبرهان على صدق دعوى الرسول وأكبر معجزة من معاجزه.
 ثم إن القرآن لم ينزل دفعة واحدة كالتوراة لتظهر عندئذ مشكلة التساؤل عن النسخة الأصلية، بل تتابع نزول القرآن خلال ثلاث وعشرين سنة.ومنذ اليوم الأول من نزوله أخذ المسلمون يعبون منه مثلما يعب العطشان من الماء الفرات عبًّا، فكانوا يستوعبون آياته ويحفظونها في قلوبهم.حيث كان المجتمع الإسلامي يومئذ مجتمعًا بسيطًا وليس عنده كتاب آخر يقرؤه ويحفظه إلى جانب القرآن، فكان يمتاز بخلو الذهن وقوة الحافظةكما إن تفشي الأمية بينهم حملهم على أن يتناولوا معلوماتهم ومعارفهم من بين ما يرون ويسمعون لذلك فقد ارتسم القرآن على قلوبهم - وهو الذي نزل منسجمًا مع ما لديهم من عاطفة وإحساس - ارتسام النقش على الحجر.ولما كان القرآن عندهم كلام الله، لا كلام بشر، فقد راحوا ينظرون إليه بتقديس، ولا يسمحون بأن يتبدل فيه حرف واحد، ولا أن يتغير مكان كلمة واحدة تقديمًا وتأخيرًا، بل كانوا لا يفتأون يتلونه ويرتلونه تقربًا إلى الله تعالى.ولا بد أن نذكر أن النبي (ص) قد انتخب منذ الأيام الأول عددًا من الكتبة عرفوا باسم "كتاب الوحي". هذه ميزة أخرى تضاف إلى مميزات القرآن لم تكن من نصيب أي كتاب أخر.إذ إن تدوين كلام الله منذ البداية يعتبر من جملة الأسباب الرئيسة في حفظه وصيانته من التحريف.
 إن من المظاهر الأخرى التي كانت سببًا في حسن استقبال الناس للقرآن، هو جانبه الأدبي والفني والرفيع..جانب فصاحته وبلاغته.كانت لقوته الأدبية جاذبية تشد الناس إليه شدًّا وتحملهم على سرعة استيعابه، بخلاف ما هو عليه الأمر بشأن كتب الأدب الأخرى، مثل ديوان حافظ وأشعار مولوي وغيرهما، فقد كان المولعون بها لا يتحرجون من التلاعب بما فيها لكي يزيدوها اكتمالًا على ما يدعون.

إلا أن أحدًا لم يجز لنفسه أن يمد يدًا في القرآن، وقد نزل قوله تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين) (1).
وآيات غيرها تبين وخامة التقول على الله سبحانه، وعلى ذلك، وقبل أن يطرأ أي تحريف على هذا الكتاب السماوي، تواترت آياته حتى بلغت مرحلة لم يعد بالإمكان معها حدوث أي تصحيف أو تحريف أو إنكار.ولهذا فلسنا بحاجة إلى أن نبحث هذا الجانب من جوانب القرآن، كما لا يحتاج ذلك أي خبير متضلع في القرآن.بيد أننا لا بد أن نتطرق إلى نقطة بهذا الخصوص، وهي إنه على أثر سرعة انتشار الإسلام ودخول الناس فيه أفواجًا، وبسبب ترامي أطراف بلاد المسلمين وبعدها عن المدينة المنورة، مركز الصحابة وحفظة القرآن، فقد ظهر احتمال وجود خطر يهدد القرآن، وعلى الأخص في المناطق النائية، حيث يمكن أن يقوم بعضهم من باب التعمد أو السهو، بإضافة أو حذف أو تغيير في نسخ القرآن هناك.غير أن ذكاء المسلمين وحسن تقديرهم للأمور حال دون وقوع هذا الاحتمال، إذ إنهم تنبهوا إلى ذلك مبكرًا في النصف الأول من القرن الأول الهجري، وأدركوا أن عليهم أن يدرأوا خطر أي تغيير متعمد، أو غير متعمد في القرآن، فاستفادوا من حفظته ومن الصحابة.
وأرسلوا نسخًا مصدقة من المدينة إلى تخوم الإسلام البعيدة، وبذلك وقفوا بوجه أي تخريب من هذا القبيل، وعلى الأخص بوجه اليهود الذين كانوا أساتذة فن التزوير والتحريف المشهورين.


1- الحاقه: 44 ـ 46.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة