مقالات

عرفانيات (3)


الإمام الخميني قدس سره ..

41 - لا بد للإنسان المتعبد، أن يوظف وقتاً للعبادة. وأن يحافظ على أوقات الصلاة التي هي أهم العبادات وأن يؤديها في وقت الفضيلة، ولا يختار لنفسه في تلك الأوقات عملاً آخر.
42 - عزيزي: اجعل مناجاتك مع الحق سبحانه بمثابة التحدّث مع إنسان بسيط من هؤلاء الناس؛ فكيف إنك إذا تكلمت مع صديق، بل مع شخص غريب، انصرف قلبك عن غيره، وتوجّهت بكل وجودك نحوه، أثناء التكلم معه، ولكنك إذا تكلمت وناجيت وليّ النِّعم، وربّ العالمين، غفلت عنه وانصرفت عنه إلى غيره؟
43 - إن تفريغ القلب من غير الحق يعدّ من الأمور المهمة، التي يجب على الإنسان أن يحققها مهما كلف الثمن، والسبيل إلى تحصيله ميسور وسهل، فمع قدر قليل من الانتباه والمراقبة نستطيع أن ننجزه ونحققه.
44 - كلّما اتجه القلب نحو تدبير الأمور وتعمير الدنيا أكثر، وكان تعلقه أشد، كان غبار الذل والمسكنة عليه أوفر، وظلام الهوان والحاجة أوسع، وعلى العكس كلما رَكَل بقدميه التعلّق بالدنيا، ووجّه وجه قلبه إلى الغني المطلق، وآمن بالفقر الذاتي للموجودات، وعرف بأن أحداً من الكائنات لا يملك لنفسه شيئاً، وأن جميع الأقوياء والأعزاء والسلاطين قد سمعوا بقلوبهم أمام ساحة الحق المقدسة من الهاتف الملكوتي، واللسان الغيبي، الآية الكريمة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ كلّما استغنى الإنسان عن العالمين أكثر، وبلغ مستوى استغنائه درجة لا يرى لمُلك سليمان قيمة، ولا يأبه بخزائن الأرض عندما توضع بين يديه مفاتيحها.
45 - لو أنّ القلب غفل عن الاشتغال بالحق وأهمل التفرغ في التوجّه نحوه لغدت هذه الغفلة أساس كل الشقاء، وينبوع جميع النقائص ومبعث كافة الأمراض النفسية. وبسبب هذه الغفلة يحول بين القلب والحق المتعالي ظلام داكن وكدورة شديدة وحجب غليظة تمنع من تغلغل نور الهداية فيه، وتحرمه من التوفيقات الإلهية.
46 - لا تقارن نفسك مع الأولياء، ولا تظن بأن قلبك يضاهي قلوب الأنبياء وأهل المعارف. إن قلوبنا ذات غبار التعلق بالدنيا وملذّاتها، وإن انغماسنا في الشهوات يمنع قلوبنا من أن تكون مرآة لتجلّي الحق سبحانه، ومحلاً لظهور المحبوب.
47 - إنّ الإنسان ما دام يشتغل بتعمير هذا العالم، ويكون قلبه متّجهاً نحو هذه النشأة، وما دام سكر الطبيعة - عالم المادة - قد أعماه وأفقد وعيه، والشهوة والغضب المخدرتان قد خدّرتاه وسلبتا لُبّه، يكون محجوباً نهائياً عن صور أعماله وأخلاقه، وتكون آثار أعماله وأخلاقه مهجورة في ملكوت قلبه. ولكن عندما تغشاه سكرات الموت وتواجهه صعابها وضغوطها، ويبتعد قليلاً عن هذه النشأة، فإذا كان من أهل الإيمان واليقين، وكان قلبه متعلقاً بهذه العوالم المادية، اتّجه قلبه في نهاية المطاف من حياته إلى ذلك العالم، والسائقون المعنويون، وملائكة الله الموكّلون عليه، يسوقونه جميعاً إلى ذلك العالم. وبعد هذا السوق، وذاك الانصراف ينكشف له نموذج من عالم البرزخ، وتنفتح عليه من عالم الغيب كُوّة ويتكشّف له حاله ومقامه قليلاً، كما نقل عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "حَرَامٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّها مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ هِيَ أَمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ".
48 – إنّ من الأمور الهامّة السعي في سبيل تطوير حالة القلب، وجعلها إلهية، وتوجيهها نحو الحق المتعالي وأوليائه ودار كرامته. ويكون هذا قطعاً بواسطة التفكّر في آلاء الذات المقدّس، ونعمائه والمحافظة على طاعته وعبادته. ولكن يجب أن لا يعتمد الإنسان على نفسه ومساعيه، بل يستعين بالله على ذلك في جميع الأحوال، وخاصة في حالات الخلوة مع الله بكل تذلّل وتضرّع وبكاء، ويطلب منه أن يلقي حبّه في قلبه ويضيئه بنور محبته ومعرفته، ويخرج حب الدنيا وما عدا الله من قلبه.
49 - إنّ الورع عن المحرّمات الإلهية يكون أساس جميع الكمالات المعنوية، والمقامات الأخروية. ولا يحصل لأحد مقامٌ إلا عند الورع عن محرّمات الله. وإن القلب الذي لا يتحلّى بالورع ليصدأ، ويبلغ به الأمر إلى مستوىً لا يُرجى له النجاة.
50 - إنّ النفوس المدنّسة بالمعصية، لا تقبل صورة ولا رسماً إلاّ بعد تنظيفها من الكدر وتطهيرها من القذارة، حتى يتمكّن الرسّام من الرسم فيها. فالعبادات التي هي الصور الكمالية للنفس، لا تنفع من دون صقلها من غبار المعصية، وإنما تكون صورة من دون لبّ وظاهراً من دون روح.
51 - إنّ الابتعاد عن المحرمات الإلهية، لا يستدعي جهداً جبَّاراً، بل الإنسان مع قليل من الترويض النفسي والعمل، يستطيع أن يترك جميع المحرمات، شريطة إرادته أن يكون فرداً من أهل السعادة والنجاة، ومن أهل الولاية للأئمة الأطهار وكرامة الحق المتعالي.
52 - إنّ ولاية أهل بيت العصمة والطهارة، ومودّتهم، ومعرفة مرتبتهم المقدّسة، أمانة من الحق سبحانه. كما ورد في الأحاديث الكثيرة الشريفة في تفسير الأمانة في الآية ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ بولاية أمير المؤمنين عليه السلام.
53 - يجب على الإنسان أنْ يكون مستسلماً لأقوال الأنبياء والأولياء عليهم السلام، ولا يوجد شيء في سبيل تكامل الإنسان، أفضل من التسليم والطاعة أمام أولياء الحق، وخاصة في الأمور التي لا مجال للعقل في التطرّق إليها ولا يوجد سبيل لإدراكها واستيعابها إلا بواسطة الوحي والرسالة.
54 - من المؤسف جداً آلاف المرات أنّي قدمت إلى هذا العالم وأنا مستغرق في بحار هوى النفس، وملتصق بالأرض المادية، ومقيّد بالشهوات وأسير للبطن والفرج، وغافل عن عالم مُلك الوجود، وسكران بسكر الأنانية والذاتية. من المؤسف أني سأفارق هذا العالم، ولم أدرك شيئاً من محبّة الأولياء، ولم أفهم شيئاً أبداً من جذباتهم وجذواتهم ومنازلهم ومغازلاتهم، بل كان حضوري في هذا العالم حضوراً حيوانياً، وحركاتي حركات حيوانيةً وشيطانية. وعليه فسيكون موتي أيضاً حيوانياً وشيطانياً. اللهمّ إليك المشتكى وعليك المعوّل.
إلهي! أنقذنا بنور هدايتك، وأيقظنا من هذا النوم العميق، وخذ بأيدينا إلى عالم الغيب والنور ودار البهجة والسرور، ومحفل الأنس، والخلوة الخاصة بك.
55 - إننا قلّما يعترينا النسيان تجاه أمر دنيوي لا سيّما في الأمور المهمّة منها، وذلك لاستعظام النفس لها، وتعلّقها بها، وتذكّرها الدائم. ومن الطبيعي أن لا يُنسى مثل هذا الأمر. فإذا قال لك شخص صادق في وعوده، إنني لدى الظهر من يوم كذا، أدفع لك مبلغاً يعدّ كبيراً ومهمّاً عندك، فإنك لا تنسى ذلك اليوم والموعد، بل تحصي الساعات والدقائق حتى يقترب الوقت لكي تستقبل الموعد بكل توجه وحضور قلب. كل ذلك نتيجة أن حبّ النفس لذلك الشيء وإكبارها له، قد شغلك به، فلا تتهاون فيه أبداً. وهكذا يكون الاهتمام من جانب الإنسان في كل الأمور الدنيوية حسب وضعه وشؤونه. وأما إذا كان الشيء تافهاً لدى الإنسان، لتوجهت النفس له لحظة واحدة، ثم غفلت عنه.
إذاً، هل تعرف المسوّغ لفتورنا هذا في الأمور الدينية؟ إنه لأجل عدم إيماننا بالغيب، ولأن مرتكزات عقائدنا واهية، وإيماننا بالوعود الإلهية والأنبياء مهتز ومتزلزل، وتكون النتيجة أن جميع الأمور الدينية والشرائع الإلهية عندنا تافهة وواهنة.
56 - إنّ الإنسان إذا آمن بالمقامات الروحانية والمعارج العرفانية فمن الممكن أن هذا الإيمان يُلهب جذوة العشق الفطري الهامد تحت رماد الرغبات النفسية، ويشعل نور الشوق في القلب، ويندفع شيئاً فشيئاً نحو الطلب والنهوض بالجهاد، فيصبح مشمولاً بهداية الحق، ونجدة الذات المقدّس المتعالي له، والحمد لله.
57 - فليكن معلوماً أنّه لا بدّ لأي إنسان أن يكون هو معالج قلبه وطبيب روحه "فإنّ المربية لن تكون أرحم من الأم". ولا يترك أيّام الفرصة والمهلة والتوسعة تفوت منه، فيستيقظ من الغفلة في وقت الاضطرار والضَّنك والضّيق حيث لا ينفعه أي دواء.
يا أيها العزيز، ما دامت هذه النّعمة الإلهيّة العظيمة والعمر الذي أعطاكه الله تعالى موجودين فابذل همّتك لأيّام الابتلاء والضّر، ونجّ نفسك من المشقّات والشقاوات التي تعترضك، فأنت اليوم في دار التغيُّر والتبدُّل ودار الزّراعة، وتستطيع أن تحصل على النتيجة المطلوبة، فإذا لا سمح الله كان الحزب الشّيطاني غالباً فيك، وعلى هذا الحال تنقضي أيَّامك وتنقطع يدك من هذا العالم فلا يُقبل الجبران بعده ولا تفيده الحسرة والنَّدامة ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
58 - إنّ الاشتغال بتهذيب النفس وتصفية الأخلاق، وهو في الحقيقة خروج من سلطة إبليس وحكومة الشيطان، من أعظم المهمات وأوجب الواجبات العقلية.
59 - أيُّها الإنسان المسكين كم ستكون حسرتك يوم يرفع حجاب الطبيعة عن بصرك وتعاين أنَّ كل ما مشيت له في العالم، وسعيت فيه كان في طريق مسكنتك وشقاوتك وقد انسدّ طريق العلاج والجبران وانقطعت يدك عن كل شيء، وليس لك مجال للفرار من السلطة الإلهيّة القاهرة ﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا﴾ (الرحمن: 33) ولا سبيل لجبران النقائض الماضية والاعتذار عن المعاصي الإلهية ﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ﴾.
60 - "يا رب" هل يمكن أن توقظ هذا القلب المحجوب والمنكوس، وتجرّ هذا الغافل المستغرق في ظلمات الطبيعة إلى عالم النُّور وتكسر بيد قدرتك الأصنام الموجودة في القلب، وتزيل غبار الجسم عن البصر؟ "إلهي" قد خنَّا أمانتك وجعلنا فطرتك في تصرف الشَّيطان اللَّعين وحجبنا عن الفطرة الإلهيَّة، وأخاف أن أخرج كليّاً بهذا السَّير الطَّبيعي والسُّلوك الشَّيطاني عن الفطرة الإلهيَّة وأجعل الدّار كلَّها في تصرُّف الشَّيطان وجنوده، والجهل وجنوده.

"يا رب" خذ أنت بيدنا حيث لا طاقة لنا على المقاومة، إلاّ أن يأخذ بيدنا لطفك، إنَّك ذو الفضل العظيم.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد