مقالات

عرفانيات (4)


الإمام الخميني قدس سره ..

61 - إنّ قلوبنا لم تتعلق بوعوده لننزعها من هذه الدُّنيا الدنيّة والنشأة الفانية ونعلّقها بالنشأة الباقية، ولم يؤثر وعيده فيها لنحترز من المعاصي الإلهيَّة ومخالفة وليّ النعمة، وهذا ليس إلاَّ لأن حقيقة القرآن وحقيَّته لم تصل إلى قلوبنا، ولم تؤمن به.
62 - أيُّها الإنسان القاسي القلب، فكّر وانظر ما هو المرض الذي جعل قلبك أقسى من الحجر الصَّلب، ولا يقبل قرآن الله الذي نزل لنجاتك من العذاب والظلمات. نعم إنّ حبائل الشيطان التي تجلّت في نظرك في صورة الدُّنيا بأصفرها وأحمرها قد سدّت طريق سمعك وبصرك، وجعلت قلبك منكوساً. والآن فكّر في الآية الشريفة التي تقول: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ (الأعراف: 179) فانظر هل علامات الذين خلقوا لجهنم موجودة فيك؟ إن قلباً حرم من نور التدبُّر والتفقُّه، وإرجاع ظاهر الدنيا إلى باطنها، لا فرق بينه وبين قطعة لحم تشكّل القلب الحيواني.
63 - بالذّكر الحقيقي تخترق الحجب بين العبد والحق، وترتفع موانع الحضور، وتزول قسوة القلب وغفلته، وتنفتح للسالك أبواب الملكوت الأعلى، وأبواب لطف الحق تعالى ورحمته. ولكن العمدة أن يكون القلب في ذلك الذكر حياً ولا يكون ميتاً ولا مستأنساً مع الأموات، وكل شيء سوى الله وسوى وجهه المقدّس هو من الأموات، ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾.
64 - اعلم أنّ الإنسان بسبب حبّ النّفس والإعجاب بها يغفل عن نفسه، وربما يرى النّقائض والعيوب الموجودة فيها كمالاً وحُسناً. والاشتباه بين صفات النفس كثير جدّاً، وقَلّ من يقدر على التمييز بينها تمييزاً صحيحاً. وهذا أحد معاني نسيان النفس، أو أحد مراتبها، الذي يحصل من نسيان الحق تعالى. ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
65 - فتنبّه أيُّها العزيز، واستيقظ من النّوم الثَّقيل، واحذر الغرور الشَّيطاني، فإن هذا الغرور يهلك الإنسان هلاكاً أبديّاً، ويؤخّره عن قافلة سالكي الطريق ويحرمه من كسب المعارف الإلهيَّة التي هي قرَّة عين أهل الله.
واعلم أنَّهُ لا تؤثر مع الغرور المواعظ الإلهيَّة ودعوات الأنبياء، ومواعظ الأولياء، لأنَّ الغرور يقلع جذورها كلها، وهذا من مصائد إبليس الكبيرة وحبال النفس الدّقيقة.
66 - على الشَّباب حتماً ولازماً أنْ يكونوا في صدد التَّصفية والتَّزكية ما دامت فرصة الشباب حاضرة، والصَّفاء الباطني، والفطرة الأصليَّة باقيين على حالهما. فيقلعون جذور الأخلاق الفاسدة، والصفات المظلمة من قلوبهم، لأنه بوجود خلق واحد سيّئ تكون سعادة الإنسان في خطر عظيم.
67 - نحن المساكين كدود القز ننسج حول أنفسنا خيوط الآمال والأماني والحرص، والطَّمع، ومحبّة الدُّنيا، وزخارفها، ونهلك أنفسنا في هذا النسيج.
68 - اليوم لا بدّ لك من أنْ تفكّر في النّعم، والرَّحمات الإلهيّة، وتقطع يد طلبك عن المخلوق الضعيف، وتنظر إلى ألطاف الحق تعالى العامة والخاصّة، وتقطع قدم السعي عن غير بابه تعالى، ولا تعتمد على غير ركن الرحمة الإلهية الركين. فما لك غفلت عن وليّ نعمتك، واعتمدت على نفسك وعملك، وعلى المخلوقين وعملهم، وارتكبت هذا الشرك الخفيّ أو الجليّ؟
69 - يمكن للعالم أنْ يؤمن سعادته الأبديّة بالروابط الحسنة. ولكن مع الأسف هذه القوى المخترعة هي تحت سيطرة الجهل والشيطنة وحب النفس وكلها تستعمل ضد سعادة النوع الإنساني وخلاف نظام المدينة الفاضلة.
70 - لو اجتمعت النَّارُ كُلّها في عالم الدُّنيا بعضها فوق بعض فلا تقدر على إحراق فؤاد الإنسان.
وما يحرق الباطن والظاهر والرُّوح والقلب، والفؤاد والبدن هو النَّار الملكوتيَّة الإلهيّة، وتبرز من باطن القلب، وتنفذ إلى الظَّاهر من مجرى الحواس.
71 - إنّ العلاج القطعي لأكثر المفاسد يكون بعلاج حب الدُّنيا، وحب النَّفس، لأنّه بعلاجها تكون النفس ساكنة ومطمئنة، ويسكن القلب، ويحلّ فيه الاطمئنان، ويتساهل بالأمور الدنيويَّة، ولا يهمُّه أي مأكل أو مشرب. فإذا زاحمه أحد في أمر من أمور الدنيا، يتلقّاه ببرودة الدم ويواجهه بالتساهل.
72 - أيها الحبيب، استيقظ قليلاً من النوم الثقيل وخذ طريق عشاق الجناب، واغسل اليد والوجه من هذا العالم، عالم الظلمة والكدورة والشيطنة، وضع القدم في حيّ المحبين، لا بل تحرك إلى حيّ الحبيب.
أيها العزيز، ستنتهي هذه الأيام القليلة للمهلة الإلهية، وسيأخذوننا من هذه الدنيا طوعاً أو كرهاً، فإن ذهبت باختيار، فَرَوح وريحان وكرامات الله، وإن ذهبت كرهاً، فنزع وصعق وضغط وظلمة وكدورة. إن مثلنا في هذه الدنيا كمثل شجر تأصل في الأرض، فكلما كان حديث الغرس كان نزعه أسهل.
73 - أيها العزيز، كلٌ منّا، لو أخبره طفل ابن عشر سنين أن حريقاً وقع في بيته، أو أن ابنه وقع في الماء، وهو الآن يغرق، فهل نترك الاشتغال بالعمل المهم، ونرفع اليد عنه، ونركض وراء تلك الأخبار الموحشة، أم أننا لا نهتمّ لها ونجلس في اطمئنان نفس كامل؟ فالآن أي أمر حدث؟! إن جميع الآيات والأخبار والبراهين والعيان لم تؤثر فينا تأثير خبر طفلٍ ابن عشر سنين. لأنها لو أثرت لسلبت الراحة منا.
74 - إنّ الإنسان إذا انحرف عن الطريق المستقيم فهو يفوق البهائم والسباع والشياطين في كل باب من أبواب البهيمية والسُبعية والشيطانية، لأن لقواه سمة الإطلاق، وغيره من الموجودات محدود ومقيّد.
75 - لا يمكن العروج إلى الكمالات الروحانية، والوصول إلى لقاء جمال الجميل مع التعلّق بغير الحق تعالى، وتبعية شهوات البطن والفرج.
76 - ما دام القلب متوجهاً إلى عالم الطبيعة الظلماني وبئر الدنيا الضيق المظلم، وفي غلاف مُلك هذا العالم وغِلّه فهو ضيق وظلماني وليس قابلاً لنور الهداية وتجلّي الجمال والجلال.
77 - بالزهد في الدنيا والإعراض عنها يستقر في القلب نور الحكمة، وهو الهادي لطريق السعادة، والوصول إلى مقام كمال الإنسانية، ويجري من القلب إلى اللسان كما ورد في باب الإخلاص أيضاً "ما أخلص عبد الله عزّ وجل أربعين صباحاً إلاّ جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه".
78 - ما دامت محبّة الدنيا والرغبة فيها متمكنتين في القلب فجميع عيوبها تتراءى حسناً وقبائحها جميلاً وجمالاً.
79 - إذا حصل الزهد الحقيقي للإنسان يخرج من الدنيا إلى دار السلامة سالماً بكل معنى السلامة، وبلا عيب. لأن جميع العيوب تحصل من التعلّقات، فإذا لم تكن التعلّقات إلى غير عزّ القدس، تحصل السلامة المطلقة.
80 - إنّ الحق تعالى شأنه يعامل خلقه في جميع الأمور بالرفق والمداراة، حتى في تشريع الشرائع، لأن الهداية إلى طريق السعادة والكمال عين الرفق.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد