قرآنيات

مناقشة ادعاء نسخ آية: ﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص...﴾


السيد أبو القاسم الخوئي ..

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى﴾(1).
فقد ادعي أنها منسوخة بقوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ﴾(2).
ومن أجل ذلك ذهب الجمهور من أهل السنة إلى: أن الرجل يقتل بالمرأة من غير أن يرد إلى ورثته شئ من الدية وخالف في ذلك الحسن وعطاء، فذهبا إلى: أن الرجل لا يقتل بالمرأة.
وقال الليث: إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة وذهبت الإمامية إلى: أن ولي دم المرأة مخير بين المطالبة بديتها، ومطالبة الرجل القاتل بالقصاص، بشرط أداء نصف دية الرجل.
والمشهور بين أهل السنة: أن الحر لا يقتل بالعبد، وعليه إجماع الإمامية، وخالفهم في ذلك أبو حنيفة، والثوري، وابن أبي ليلى، وداود، فقالوا: إن الحر يقتل بعبد غيره، وذهب شواذ منهم إلى: أن الحر يقتل بالعبد وإن كان عبد نفسه.
والحق: أن الآية الأولى محكمة ولم يرد عليها ناسخ، والوجه في ذلك: أن الآية الثانية مطلقة من حيث العبد، والحر، والذكر، والأنثى فلا صراحة لها في حكم العبد، وحكم الأنثى، وعلى كل فإن لم تكن الآية في مقام البيان من حيث خصوصية القاتل والمقتول، بل كانت في مقام بيان المساواة في مقدار الاعتداء فقط، على ما هو مفاد قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾(3) كانت مهملة ولا ظهور لها في العموم لتكون ناسخة للآية الأولى، وإن كانت في مقام البيان من هذه الناحية - وكانت ظاهرة في الإطلاق وظاهرة في ثبوت الحكم في هذه الأمة أيضًا، ولم تكن للإخبار عن ثبوت ذلك في التوراة فقط - كانت الآية الأولى مقيدة لإطلاقها، وقرينة على بيان المراد منها، فإن المطلق لا يصلح لأن يكون ناسخًا للمقيد وإن كان متأخرًا عنه، بل يكون المقيد قرينة على التصرف في ظهور المطلق على ما هو الحال في المقيد المتأخر، وعلى ذلك فلا موجب للقول بجواز قتل الحر بالعبد.
وأما الرواية التي رووها عن علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: " المسلمون تتكافأ دماؤهم " فهي - على تقدير تسليمها - مخصصة بالآية، فإن دلالة الرواية على جواز قتل الحر بالعبد إنما هي بالعموم.
ومن البين أن حجية العام موقوفة على عدم ورود المخصص عليه المتقدم منه والمتأخر.
وأما ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطريق الحسن عن سمرة فهو ضعيف السند، وغير قابل للاعتماد عليه.
قال أبو بكر بن العربي: " ولقد بلغت الجهالة بأقوام أن قالوا: يقتل الحر بعبد نفسه " ورووا في ذلك حديثًا عن الحسن عن سمرة قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " من قتل عبده قتلناه "، وهذا حديث ضعيف.
أقول: هذا، مضافًا إلى أنها معارضة برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلًا قتل عبده متعمدًا، فجلده النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين، ولم يقده به.
وبما رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبما رواه جابر عن عامر عن علي عليه السلام: " لا يقتل حر بعبد "، وبما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أبا بكر وعمر كانا لا يقتلان الحر بقتل العبد.
وقد عرفت أن روايات أهل البيت (ع) مجمعة على: أن الحر لا يقتل بالعبد، وأهل البيت هم المرجع في الدين بعد جدهم الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وبعد هذا فلا يبقى مجال لدعوى نسخ الآية الكريمة من جهة قتل الحر بالعبد.
وأما بالاضافة إلى قتل الرجل بالمرأة فليست الآية منسوخة أيضًا، بناء على مذهب الإمامية والحسن وعطاء، نعم تكون الاية منسوخة على مسلك الجمهور، وتوضيح ذلك أن ظاهر قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾(4).
أن القصاص فرض واجب، ومن الواضح أنه إنما يكون فرضًا عند المطالبة بالقصاص من ولي الدم، وذلك أمر معلوم من الخارج، ويدل عليه من الآية قوله تعالى فيها: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾(5).
وعلى ذلك فالمستفاد من الآية الكريمة أن القاتل يجب عليه أن يخضع لحكم القصاص إذا طالبه ولي الدم بذلك، ومن الواضح أن هذا الحكم إنما يكون في قتل الرجل رجلاً، أو قتل المرأة رجلاً أو امرأة، فإن الرجل إذا قتل امرأة لا يجب عليه الانقياد للقصاص بمجرد المطالبة، وله الامتناع حتى يأخذ نصف ديته، ولا يأخذه الحاكم بالقصاص قبل ذلك.

وبتعبير آخر: تدل الآية المباركة على أن بدل الأنثى هي الأنثى، فلا يكون الرجل بدلًا عنها، وعليه فلا نسخ في مدلول الآية، نعم ثبت من دليل خارجي أن الرجل القاتل يجب عليه أن ينقاد للقصاص حين يدفع ولي المرأة المقتولة نصف ديته، فيكون الرجل بدلًا عن مجموع الأنثى ونصف الدية، وهو حكم آخر لا يمس بالحكم الأول المستفاد من الآية الكريمة، وأين هذا من النسخ الذي يدعيه القائلون به.
وجملة القول: أن ثبوت النسخ في الآية يتوقف على إثبات وجوب الانقياد على القاتل بمجرد مطالبة ولي المرأة بالقصاص، كما عليه الجمهور.
وأنى لهم إثباته؟ فإنهم قد يتمسكون لإثباته بإطلاق الآية الثانية على ما صرحوا به في كلماتهم، وبعموم قول النبي (ص): " المسلمون تتكافأ دماؤهم " وقد عرفت ما فيه.
وقد يتمسكون لإثبات ذلك بما رووه عن قتادة عن سعيد بن المسيب: أن عمر قتل نفرًا من أهل صنعاء بامرأة وقادهم بها.
وعن ليث عن الحكم عن علي وعبد الله قالا: " إذا قتل الرجل المرأة متعمدًا فهو بها قود ".
وعن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده: أن رسول الله (ص) قال: " إن الرجل يقتل بالمرأة ".
وهو باطل من وجوه:
1. إن هذه الروايات - لو فرضت صحتها - مخالفة للكتاب، وما كان كذلك لا يكون حجة.
وقد عرفت - فيما تقدم - قيام الاجماع على أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد.
2. إنها معارضة بالروايات المروية عن أهل البيت (ع) وبما رواه عطاء والشعبي، والحسن البصري عن علي عليه السلام أنه قال في قتل الرجل امرأة: " إن أولياء المرأة إن شاءوا قتلوا الرجل وأدوا نصف الدية، وإن شاءوا أخذوا نصف دية الرجل ".
3. إن الرواية الأولى منها من المراسيل، فإن ابن المسيب ولد بعد مضي سنتين من خلافة عمر فتبعد روايته عن عمر بلا واسطة، وإذا سلمنا صحتها فهي تشتمل على نقل فعل عمر، ولا حجية لفعله في نفسه، وأن الرواية الثانية ضعيفة مرسلة، وأما الرواية الثالثة فهي على فرض صحتها مطلقة، وقابلة لأن تقيد بأداء نصف الدية.
ونتيجة ما تقدم: أن الآية الكريمة لم يثبت نسخها بشيء، وأن دعوى النسخ إنما هي بملاحظة فتوى جماعة من الفقهاء، وكيف يمكن أن ترفع اليد عن قول الله تعالى بملاحظة قول زيد أو عمرو؟ ومما يبعث على العجب أن جماعة يفتون بخلاف القرآن مع إجماعهم على أن القرآن لا ينسخ بخبر الواحد.
وقد اتضح مما بيناه أن قوله تعالى: ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾(6).
وقوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ﴾(7).
لا يصلحان أن يكونا ناسخين للآية المتقدمة التي فرقت بين الرجل والأنثى، وبين الحر والعبد.


1- البقرة/178
2- المائدة/45
3- البقرة/194
4- البقرة/178
5- البقرة/178
6- الإسراء/33
7- البقرة/179

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة