من التاريخ

الدَّولَة الصّفويَّة (2)


الشاه عباس:
استتب له الأمر سنة 996 هجري، وكان معروفاً بأصالة الرأي، وقوة العزم، وحسن التدبير، والعدل في الرعية، وكانت البلاد الإيرانية حين تولى الملك مجزأة الأطراف، موزعة بين الأتراك والتركمان بسوء إدارة أسلافه، فاسترجعها ووحدها تحت سلطانه، وأنشأ لأول مرة في تاريخ إيران، أو الصفويين العلاقات السياسية والعلمية والعسكرية بين إيران، ودول أوروبا، كفرنسا، وانكلترا، وإيطاليا.
وما أن أخضع الثائرين والخارجين عليه، حتى حشد الأتراك على الحدود الإيرانية مائة ألف جندي، فصدهم الشاه عباس، وأرجعهم خاسرين، وقد تبين له من حربه مع الأتراك أن الجيش الإيراني ينقصه التدريب والنظام، فاستقدم الخبراء الأجانب، فنظموا له الجيش على الطرق الحربية الحديثة يومذاك، ولما اطمأن إلى جيشه زحف به على بقية الأقطار التي انتزعها الأتراك من الإمبراطورية الإيرانية، واستردها قطراً بعد قطر، حتى استرجع أذربيجان وشطوط بحر قزوين وبلاد الجراكسة والعراق والموصل وديار بكر وكردستان وما يليها، وكانت جيوشه - بعد أن دربت تدريباً حديثاً - تتغلب على جيش العدو الذي كان يبلغ - أحياناً - ضعفي عدد عساكره.
وقد اتخذ اصفهان قاعدة ملكه، ونظم أحوالها، وأحسن تدبيرها، وكانت العاصمة قبله مدينة تبريز، ثم قزوين.


الشاه عباس والعمران:
لا نعرف سلطاناً كان يملك عقلاً عمرانياً، ويفكر ويعمل ليل نهار لراحة الرعية ورفاهيتها أكثر من الشاه عباس، لقد وهب هذا الشاه نفسه وخزينته، وكل ما يملك لصلاح الشعب وإصلاحه، وجعل العمل للخير العام هدفه الأول ومثله الأعلى، وآثاره القائمة إلى اليوم أصدق الشواهد. إن وجود ملك في عصر الظلمات تتسم جميع أعماله بطابع الإنسانية والمصلحة العامة لهو من خوارق العادات، ولنشرع الآن في تقديم الأمثلة:
منها: أنه استقدم العديد من الخبراء بالتجارة والصناعة، مع عائلاتهم من الأرمن وغيرهم، وبنى لهم مدينة خاصة في ضواحي أصفهان عاصمة ملكه، وأنشأ فيها الكنائس والأسواق، وأطلق لهم الحرية الدينية بكامل معانيها، وقد تعلم الإيرانيون من هؤلاء أنواعاً من الفنون والصناعات، وكانوا عاملاً قوياً في حضارة إيران، ورفع مستواها الاقتصادي.
قال شاهين مكاريوس في «تاريخ إيران»: "خطت البلاد في أيامه خطوة واسعة إلى العظمة والتقدم، فكثرت التجارة مع الإفرنج، وتردد التجار والسائحون إلى البلاد، وتوطدت العلاقات الطيبة مع دول أوربا وسلطان الهند. وشاد الصروح الفخمة، وزين المدائن، وأمر بالعدل، وترك من الآثار العظيمة ما يخلد الذكر، بخاصة في أصفهان التي ليس لها مثيل في الشرق وهو أعظم سلاطين المشرق، وأشهر ملوك إيران، حتى أن الإيرانيين يطلقون عليه عباس شاه الكبير، ويظنون أن كل ما في إيران من الآثار القديمة هي من حسناته".
وقال صادق نشأت، ومصطفى حجازي في «صفحات عن إيران»: "وقد نشط الشاه عباس الكبير في إقامة علاقات سياسية مع دول أوربا مما ساعد على تبادل المعلومات الصحيحة بين إيران وأوروبا، وكان عباس الكبير يبدي روح التسامح الديني نحو غير المسلمين، وكان يهتم بترقية إيران صناعياً، وقد أحضر ثلاثمائة من الصناع الصينيين المهرة في صناعة الخزف، مع عائلاتهم، ليعلموا الصناع الإيرانيين الجودة في هذه الصناعة، ويدربوهم على إتقانها، وأخذت إيران تنتج الخزف بكميات هائلة. أما الصناعات الأخرى فإن صناعة السجاد قد بلغت في عهد الصفويين حدًّا من الروعة والاتقان كان أساساً لتفوقها الكبير، كذلك ارتفعت صناعة المنسوجات الحريرية ذات الخيوط الفضية والذهبية والنماذج الزخرفية البديعة".
ومنها: اهتمامه البالغ بشق الطرق وتعبيدها، وتسهيل المواصلات بالأساليب المألوفة في عهده، حتى أنه بنى ألف خان، يتسع الواحد منها لمئات المسافرين مع دوابهم وحمولتهم، وكانوا يأوون فيها دون أي مقابل، ومعلوم أن هذه الخانات كانت ضرورية لمواصلة السير والتنقل، ولولاها لاستحال على المسافرين أن يقطعوا المسافات النائية. وما زالت آثار هذه الخانات قائمة، حتى اليوم.
ومنها: عنايته بالرياضيين المعروفين في إيران «بالبهلوان» فقد خصص لهم جناحاً خاصاً في قصره، واعتبرهم من رجال بلاطه.
ومنها: تشييده المساجد والمدارس الفخمة على أحدث طراز.
ومنها: تكريمه العلماء والفقهاء بشتى أنواع التكريم والتعظيم، حتى كثرت في عهده المؤلفات في الفقه والحديث والأصول والأخلاق، وغيرها. قال السيد محسن الأمين في الجزء الثاني من «معادن الجواهر»: "كان سوق العلم في عصره بأصفهان في رواج عظيم، وكان يصدر عن رأي المحقق السيد الداماد، والشيخ بهاء الدين العاملي في خطير الأمور وحقيرها، وألف البهائي كثيراً من الكتب باسمه، كالجامع العباسي وغيره"

إلى غير ذلك من الأعمال الجليلة، هذا، وكان يرفض التفخيم والتعظيم، ويأبى أن يطلق عليه الألقاب، وأن يُدعى بغير وكيل الرعية، لأن هذا هو واقع كل حاكم، ومن حاد عن مفهوم الوكالة وحدودها فهو طاغية مستبد. وكان شديد الاتصال بالناس مهتماً بمعرفة أحوالهم، وما هم عليه من بؤس أو نعيم، وكان يلبس كل ليلة لباس الدراويش ويتنقل في الشوارع يتنسم الأخبار، ويتفقد الفقراء والمعوزين، وكان يفعل ذلك في حروبه أيضاً، ومن طريف ما حدث له أنه دخل ذات ليلة إلى جيش الأتراك حين تجمع على حدود إيران، متنكراً بغير زيه هو وبعض أعوانه، ولما رآهم بعض الضباط دعوهم إلى تناول الطعام، فلبى الشاه الدعوة، وأكل مظهراً الغبطة والسرور، ثم دعا أولئك الضباط إلى زيارة معسكر الإيرانيين، ومناولة الطعام، فقالوا: نتمنى ذلك من صميم الفؤاد، عسى أن يقع نظرنا على الشاه الذي اشتهر هذه الشهرة الكبرى، وهو بعد في مقتبل العمر، وجاء الضباط مع صاحب الدعوة إلى معسكر الإيرانيين، وما أن دخلوا المعسكر، حتى عرفوا الحقيقة، فأكرمهم الشاه وأولم لهم الولائم، ثم أعادهم إلى أماكنهم، فعظمت مكانته في نفوسهم، وظلوا يتحدثون عنه بالإكبار والإجلال.


الشاه عباس والتشيع:
أشرنا فيما تقدم إلى عناية الشاه بعلماء المذهب، وصدوره عن رأيهم، وكثرة تآليفهم في عهده، وكان مع كثرة حروبه ومغازيه لا يقعده شيء عن إحياء الشعائر المذهبية، وله آثار باقية، حتى اليوم في مشاهد الأئمة بالعراق وإيران، وهو الذي بنى الحضرة العلوية في النجف وصحنها بهندسة الشيخ البهائي، وحجره بالكاشي على الهيئة التي هي عليها اليوم، وقد أودع في خزانة أمير المؤمنين وحفيده الرضا التحف الثمينة، ومن آثاره النهر المعروف في النجف بنهر الشاه، وقد حفره سنة 1032 هجري بعد أن فتح بغداد، كما أن من آثاره في النجف آباراً واسعة كثيرة، وهي تسمى اليوم «الشاه عباسات».
ولد الشاه عباس سنة 979، واستقل بالملك سنة 996، وتوفي سنة 1038.
وتولى الملك بعده أولاده وأحفاده، وليس فيهم من يستأهل الذكر سوى حفيده الشاه عباس الثاني ابن الشاه صفي، قال صاحب «تاريخ إيران»: "إنه اظهر سياسة واقتداراً، وإنه عقد صلحاً مع الأتراك، فلم تحدث الحروب في أيامه، كما نمت المتاجر وتقدمت العلوم والصنائع، ورتعت البلاد في بحبوحة الأمن والراحة".
وقال السيد الأمين في «معادن الجواهر»: "كان عارفاً بتدبير شؤون الملك مكرماً العلماء، وقد أمر المولى خليل القزويني بشرح كتاب الكافي للكليني بالفارسية، والمولى محمد تقي المجلسي بشرح كتاب من لا يحضره الفقيه، وأحضر المولى محسن الكاشي، وألزمه بإقامة الجمعة والجماعة، واقتدى به".
واستمر ملك الصفوية من سنة 905 هجري إلى سنة 1148، وهي السنة التي جلس فيها نادر شاه أفشار على أريكة السلطنة.
ومن علماء الدور الصفوي المحقق الكركي، والسيد الداماد، والشيخ حسين عبد الصمد، وولده الشيخ البهائي، والمجلسي الكبير صاحب البحار، وصدر المتألهين صاحب الأسفار، والمحقق الأردبيلي، والملا عبد اللّه اليزدي، والفيض الكاشي، وغيرهم، وقال بركلمن في الجزء الثالث من «تاريخ الشعوب الإسلامية»: «والحق أن الشاه عباس عني بالفلسفة والعلوم الطبيعية فضلاً عن الفقه، وكذلك ازدهر الشعر والموسيقى في ظل عباس أيضاً».

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة