مقالات

صلاح القلب وفساده


المشكيني ..

إن  المقصد الأعلى والغرض الأسمى في علم الأخلاق السعي في إصلاح القلب وإكماله، وتطهيره وتزكيته عن ذمائم الصفات، وتزيينه وتحليته لفضائل السجايا وفواضل الملكات، ليستعد على الاستفاضة من إنارة الألطاف الرحمانية وإضافة المعارف الالهية من حضرة ذي الجلال. فبالقلب شرف الإنسان وبه فضيلته على كثير من الخلق، وبه ينال معرفة ربه التي هي في الدنيا شرفه وجماله، وفي الآخرة مقامه وكماله. فالقلب هو العالم بالله، والعامل لله، والساعي إلى الله، والمتقرب إلى جوار الله، والجوارح أتباع وخدم يستعملها استعمال الملك للعبيد والصانع للآلة.
والقلب هو المقبول عند الله إذا سلم من الآفات، والمحجوب عن الله تعالى إذا استغرق في الشهوات وهو الذي يفلح الإنسان إذا زكاه ويخيب ويشقى إذا دساه وهو المطيع لله على الحقيقة والمشرق على الجوارح أنواره وهو العاصي في الواقع والظاهر على الأعضاء آثاره وباستنارته وظلمته تظهر محاسن الظن ومساويه، إذا كل إناء يترشح بما فيه.
 وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه، وإذا جهله جهل نفسه، واذا جهل نفسه فقد جهل ربه.
 وهو الذي جهله أكثر الناس وغفلوا عن عرفانه، وحيل بينهم وبينه بمعاصيهم والحائل هو الله، فإنه يحول بين المرء وقلبه، وينسى الإنسان نفسه ويضله ولا يهديه. ولا يوفقه لمشاهدته ومراقبته ومعرفة صفاته، فمعرفة القلب وأحواله وأوصافه أصل الأخلاق وأساس طريق الكمال.
 والقلب لطيفة ربانية روحانية لها تعلق بالبدن شبه تعلق الأعراض بالأجسام، أو تعلق المستعمل بالآلة، أو المكين بالمكان.
 والروح أيضاً عبارة عن هذه اللطيفة الربانية العالمة المدركة، وهو أمر عجيب رباني يعجز العقول عن إدراك كنهه.
 والنفس أيضاً هي اللطيفة المذكورة، وهي الإنسان في الحقيقة، وتتصف بأوصاف مختلفة بحسب أحوالها، فإذا سكنت تحت أمر الله وزال عنها الاضطراب لثقتها بالله ولم تتزلزل ولم تضطرب ولم تنحرف عن سبيل الله وطريق الحق عند معارضة الشهوات سميت بـ « النفس المطمئنة ». وإذا لم يتم سكونها ولكن كانت مدافعة عن نفسها معارضة مع ما تقتضيه شهواتها سميت بـ « النفس اللوامة ». وإن أذعنت وأطاعت للشهوات ودواعي الهوى والشياطين سميت بـ « النفس الأمارة بالسوء ».
 ثم إن طريق تسلط الشيطان على القلب: الحواس الخمس الظاهرة والقوى الباطنة: كالخيال والشهوة والغضب. فالقلب يتأثر دائماً من هذه الجهات، وأخص الآثار الحاصلة في القلب هي الخواطر، والخواطر هي المحركات للإرادات، فإن سند الأفعال الخواطر، والخاطر يحرك الرغبة، والرغبة تحرك العزم والنية، والنية هي الإرادة التي تحرك العضلات والأعضاء.
 والخواطر المحركة قسمان: قسم يدعوا إلى الخير، وهو ما ينفع الإنسان في العاقبة، وقسم يدعو إلى الشر وهو ما يضره في العاقبة، والخاطر المحمود إلهام، والمذموم وسوسة، وسبب الخاطر الداعي إلى الخير في الغالب هو الملك، وإلى الشر هو الشيطان.
 والملك خلق من خلق الله، شأنه إفاضة الخير وإفادة العلم وكشف الحق والوعد بالمعروف. والشيطان خلق على ضد ذلك. شأنه الوعد بالشر والأمر بالفحشاء، والتخويف بالفقر عند الهم بالخير، ولعل المقام من مصاديق قوله تعالى: (ومن كل شيء خلقنا زوجين)[1] فإن الموجودات متقابلة مزدوجة بمعان مختلفة. وقد ورد أنه للقلب لمتان: لمة من الملك ولمة من الشيطان، واللمة: الخطوة والدنو والمساس. وورد أيضاً: إن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمان[2]، أي: بين خلقين مقهورين بإرادة الله التكوينية كالإصبع من صاحبها وهما: الملك والشيطان ومعنى كونه بينهما أن الله يخلي بينه وبين أي منهما أراد حسب اقتضاء عمل الإنسان ورغبته ودعائه.
 ثم إن القلب بأصل الفطرة صالح مستعد لقبول دعوات الملك والشيطان ويترجح أحدهما على الآخر باتباع الهوى والشهوات أو الإعراض عنها والميل إلى الطاعات، فإن اتبع الإنسان مقتضى الأول تسلط عليه الشيطان وصار القلب عشاً له، وصار صاحبه ممن باض الشيطان وفّرح في صدره ودب ودرج في حجره. وإن جاهد في مخالفة الشهوات كان قلبه مستقر الملائكة ومهبطهم وعاد صاحبه ممن سبقت له من الله الحسنى، وقد قال تعالى: (وقل رب أعوذ من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون)[3].
وذكرنا هذا ليسهل عليك فهم ما سوف نذكره من الأحاديث المقصودة واستفدنا ذلك من كلمات بعض المحققين على ما نقله عنه الفاضل المجلسي 1 في ج70 من البحار.
وأما النصوص الواردة في بيان القلب وحالاته فعن النبي (ص) «في الإنسان مضغة إذا هي سلمت وصحت سلم بها سائر الجسد، فإذا سقمت سقم لها سائر الجسد وفسد، وهي القلب»[4]. والمراد بالقلب: الروح الإنساني التي لها تعلق خاص بالقلب الصنوبري، والمراد من صحتها: حصول صفة التسليم لها، ومن مرضها: عروض الطغيان عليها، وسلامة سائر الجسد عدم صدور المعاصي منه، وسقمه صدورها عنه. وهذا هو المراد من قوله (عليه السلام): «إذا طاب قلب المرء طاب جسده، وإذا خبث القلب خبث الجسد»[5]. وكذا من قول علي(عليه السلام): « أشد من مرض البدن مرض القلب، وأفضل من صحة البدن تقوى القلوب »[6].
وفي صحيح أبان عن الصادق (عليه السلام): « ما من مؤمن إلا لقلبه أذنان في جوفه: أذن ينفث فيها الوسواس الخناس، وأذن ينفث فيها الملك، فيؤيد الله المؤمن بالملك وذلك قوله: وأيدهم بروح منه »[7].


وورد في النصوص:
أن للقلب أذنين، فإذا هم العبد بذنب قال له روح الإيمان: لا تفعل، وقال له الشيطان: إفعل[8].
وأن بعض القلوب منكوس لا يعي الخير أبداً، وبعضها فيه الخير والشر يعتلجان، وبعضها مفتوح فيه مصباح يزهر ولا يطفأ نوره[9].
وأن من علائم الشقاء قسوة القلب والحرص على الدنيا والإصرار على الذنب وجمود العين[10].
وأنه إذا أراد الله بعبد خيراً فتح عيني قلبه فأبصر بهما الغيب وأمر آخرته وإذا أراد غير ذلك ترك القلب بما فيه[11].
وأن للقلب أذنين، الملك وروح الإيمان يساره ويأمره بالخير، والشيطان يساره ويأمره بالشر، فأيهما ظهر على صاحبه غلب[12].
وأن قلوب المؤمنين مطوية بالأيمان طياً، فإذا أراد الله إنارة ما فيها فتحها بالوحي[13].
وأن الخطيئة أفسد شيء للقلب. فما تزال به حتى تجعله منكوساً[14].
وأنه ما جفت الدموع إلا لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب[15].
وأن للقلب إعراباً كالحروف، فرفع القلب اشتغاله بذكر الله، وفتحه رضاه عن الله، وخفضه اشتغاله بغير الله، ووقفه غفلته عن الله[16].
وأن لله في عباده آنية وهو القلب، فأحبها إليه أصفاها وأصلبها وأرقها أصفاها من الذنوب وأصلبها في دين الله وأرقها على الأخوان[17].
وأن القلوب مرة يصعب عليها الأمر فتحب الدنيا، ومرة يسهل فترق وتسلوا عن الدنيا ويحقر عنده ما في أيدي الناس من الأموال حتى كأنها تعاين الآخرة والجنة والنار[18].
وأنه لو دامت على هذه الحالة لصافحت الملائكة ومشت على الماء[19].
وأن للقلب اضطراباً عند طلب الحق وخوفاً، فإذا أصابه اطمأن به، فإن من يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام. ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء[20].
وأن الله يحول بين المرء وقلبه، والحيلولة: أن لا يأتي بشيء مما يشتيهيه من الحرام إلا وهو ينكره ويعلم أن ذلك باطل، ولا يستيقن أن الحق باطل أبداً، ولا يستيقن أن الباطل حق أبداً[21].
وأن لله خزانة أعظم من العرش وأوسع من الكرسي وأطيب من الجنة وهي القلب[22].
 وأنه يأتي عليه تارات أو ساعات ليس فيه إيمان ولا كفر شبه الخرقة البالية[23].
وأن قلب المؤمن أجرد فيه سراج يزهر[24].
وأن القلب السليم هو الذي يلقى ربه وليس فيه أحد سواه[25].
وأنه لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت[26].
وأنه إذا نشطت القلوب فأودعوها، وإذا نفرت فودعوها[27]، فإنه إذا أكره عمى[28].


[1] - الذاريات: 51.
[2] - المحجة البيضاء: ج5، ص 85 ـ بحار الانور: ج 70، ص 39 ـ مرآة العقول: ج 10، ص 394.
[3] - المؤمنون: 97 ـ 98.
[4] - بحار الأنوار: ج70، ص 50 ـ الخصال ص31.
[5] - بحار الأنوار: ج70، ص50 ـ الخصال ص 31 ـ نور الثقلين: ج3، ص 585.
[6] - بحار الأنوار: ج70، ص51.
[7] - بحار الأنوار: ج63، ص194 ـ ج69، ص267 ـ ج70، ص48 ـ الكافي: ج 2، ص 267 ـ مرآة العقول: ج9، ص392 ـ نور الثقلين: ج5، ص269.
[8] - بحار الأنوار: ج70، ص44.
[9] - بحار الأنوار: ج70، ص 51.
[10] - بحار الأنوار: ج70، ص52.
[11] - بحار الأنوار: ج70، ص 53.
[12] - نفس المصدر السابق.
[13] - بحار الأنوار: ج70، ص54.
[14] - نفس المصدر السابق.
[15] - بحار الأنوار: ج70، ص55.
[16] - نفس المصدر السابق.
[17] - بحار الأنوار: ج 70، ص56.
[18] - نفس المصدر السابق.
[19] - بحار الأنوار: ج 70، ص57.
[20] - نفس المصدر السابق.
[21] - بحار الأنوار: ج 70، ص58.
[22] - بحار الأنوار: ج 70، ص59.
[23] - نفس المصدر السابق.
[24] - نفس المصدر السابق.
[25] - ـ نفس المصدر السابق.
[26] - نفس المصدر السابق.
[27] - بحار الأنوار: ج70، ص60.
[28] - بحار الأنوار: ج 70، ص61.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد