قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

العلم بتأويل المتشابه


الشيخ جعفر السبحاني

هل يختص العلم بتأويل المتشابه باللّه سبحانه؟ أو يعمّه والراسخين في العلم فالكلّ يعلم تأويل المتشابه، وإن كان بين العلمين فرق، فالأوّل علم واجب غير متناه، والآخر علم إمكاني متناه؟
وقد احتدم النزاع عبر قرون في تفسير الآية، أعني قوله سبحانه: (وَما يَعْلَمُ تَأْويلهُ إِلاّ اللّه وَالرّاسِخُونَ فِي العِلْم)، فقد وقفت طائفة على لفظ الجلالة وعليه حرم الراسخون في العلم من تأويل المتشابه، وطائفة أُخرى عطفت «الراسخون في العلم» على لفظ الجلالة وشرّكتهم في العلم بها، ولم تزل هذه المسألة مورد البحث والنقاش إلى عصرنا هذا.
إنّ حلّ هذه المشكلة تكمن في تفسير المتشابه، فمن فسر المحكم بكلّ ما أمكن تحصيل العلم به بدليل جلي أو خفي، والمتشابه ما لا سبيل إلى العلم به كوقت قيام الساعة وحقيقة الجن والملك وسائر الأُمور غير المحسوسة، فلا محيص له عن الوقف، لأنّه سبحانه تبارك و تعالى استأثر بها على غيره.
وأمّا على ما أوضحناه من أنّ الإحكام والتشابه يرجع إلى الدلالة، وأنّ تأويل المتشابه عبارة عن إرجاعه إلى المعنى المراد ببركة الإمعان في نفس الآية والقرائن المكتنفة والقرائن المنفصلة، فالعلم بتأويل المتشابه يعمّه سبحانه والراسخين في العلم أيضاً.
فمن حاول تحقيق المطلب يجب عليه الانطلاق أوّلاً بحلّ معضلة التشابه ثمّ العروج على تأويل المتشابه.
إنّ القرآن الكريم كتاب هداية وتذكرة أنزل للتدبّر فيه، يقول سبحانه: (فَما لَهُمْ عَنِ التذْكِرَة مُعْرِضين* كأَنّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفَرة* فرّت من قَسْورة)  ويقول سبحانه (: وَلَقَدْ يَسَّرنا القُرآن لِلّذِّكْر فَهَلْ مِنْ مُدَّكر).
فعلى ضوء ذلك يجب أن يكون القرآن مفهوماً ومعلوماً من بدئه إلى ختمه على ضوء الأُصول التي ذكرناها عند البحث عن مؤهلات المفسر، ومنه الآيات المتشابهة فقد أنزلت للهداية والتذكرة فلا معنى لأن يستأثر اللّه بعض آياته على العباد، وعلى ضوء ذلك لم نجد أحداً من علماء الأُمّة يتوقف في تفسير الآية بذريعة أنّ الآية متشابهة، بل ظل يتفحّص عن القرائن الرافعة للشبه حولها، وقد أيّد هذا المعنى فريق من العلماء.
قال الشيخ أبو علي الطبرسي: وممّا يؤيد هذا القول ـ أي أنّ الراسخين يعلمون التأويل ـ أنّ الصحابة والتابعين أجمعوا على تفسير جميع آي القرآن ولم نرهم توقفوا على شيء منه لم يفسروه بأن قالوا: هذا متشابه لا يعلمه إلاّ اللّه.
وقال الإمام بدر الدين الزركشي: إنّ اللّه لم ينزل شيئاً من القرآن إلاّ لينتفع به عباده، ويدلّ به على معنى أراده ـ إلى أن قال: ـ ولا يسوغ لأحد أن يقول: إنّ رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ لم يعلم المتشابه، فإذا جاز أن يعرفه الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ مع قوله:(وَما يَعْلم تَأْويله إِلاّ اللّه) جاز أن يعرفه الربانيون من صحابته، والمفسرون من أُمّته.
ألا ترى أنّ ابن عباس كان يقول: أنا من الراسخين في العلم. ولو لم يكن للراسخين في العلم حظ من المتشابه إلاّ أن يقولو«آمنا» لم يكن لهم فضل على الجاهل، لأنّ الكلّ قائلون ذلك. قال: ونحن لم نر المفسرين إلى هذه الغاية توقّفوا عن شيء من القرآن، فقالوا: هذا متشابه لا يعلم تأويله إلاّ اللّه، بل أمرّوه على التفسير حتّى فسروا الحروف المقطعة.
ثمّ إنّ في نفس الآية دلالة واضحة على أنّه معطوف على لفظ الجلالة وهو أنّه سبحانه يصف هؤلاء بالرسوخ في العلم ومقتضى الرسوخ فيه العلم بالتأويل ولو كانت وظيفتهم مقتصرة على الإيمان من دون العلم به كان الأنسب بل المناسب أن يقول والراسخون في الإيمان.
وعلى ضوء ما ذكرنا فالجملة معطوفة على لفظ الجلالة وتفسر الآية بالشكل التالي:
(وَلا يَعْلم تأويله إِلاّ اللّه والرّاسِخون في العلم)
أي لكن الراسخين في العلم يقولون «آمنا بالمتشابه»كإيماننا بالمحكم، فيأخذون بكلتا الآيتين بحجة «كل من عند ربّنا» ولكن الذي في قلوبهم زيغ يأخذون بخصوص المتشابه للغايتين الفاسدتين دون المحكم، فكأنّه سبحانه لم ينزل إلاّ المتشابه، فالإيمان بالمتشابه الذي جاء في قوله «آمّنا به» لا يدلّ على أنّ الراسخين يؤمنون به دون أن يعلموا، وذلك لأنّ ذكر إيمانهم بهما لغاية ردّ أصحاب الزيغ حيث يؤمنون بواحد منهما واختصاص الإيمان به بالراسخين لا أنّه لا شأن لهم سوى الإيمان دون العلم.
وعلى ذلك فليس فيه إشعار على اختصاصهم بالإيمان دون العلم.
هذا ما يفهمه كلّ من له إلمام بالأدب العربي وكلمات البلغاء والفصحاء فلا يشك في العطف.
وأمّا ما هو موضع قوله: (يقولون آمنا به كّل من عند ربّنا) إذا كان مفصولاً عما تقدّم.
والجواب واضح وهو أنّه جملة حالية، قال الزمخشري: «يقولون» كلام مستأنف موضح لحال الراسخين.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد