علمٌ وفكر

أنواع معرفة العالَم (2)


الشهيد مرتضى مطهري

من مساوىء المنظور العلمي الأُخرى، وهي ناتجة ممّا سبق ذكره، هي أنّه لا يؤثّر في توجيهنا توجيهاً مناسباً. إنّ المنظور العلمي لا يستطيع أن يُلهمنا السلوك المناسب الذي يجب أن نختاره. وكذا لا يستطيع أن يُلهمنا السلوك الذي (يجب) أن نختاره في حياتنا. أي إنّ العلم يُطلعنا إلى حدٍّ ما، على ما هو موجود، دون أن يوحي إلينا بما (ينبغي).
يقول (برتراند راسل) في كتابه عن المنظور العلمي: "في معرض بحثنا في تأثير العلم في حياة الإنسان يجب أن تُدرس ثلاثة مواضيع دراسة مستقلّة ومنفصلة بعضها عن بعض إلى حدٍّ ما: الأوّل ماهية المعرفة العلمية وحدودها، والثاني القدرة المتزايدة على التصرّف في الطبيعة الناشئة عن تطوّر العلم، والتكنولوجيا، والثالث التطوّرات والتقاليد الاجتماعية التي أوجدتها بالضرورة المؤسّسات العلمية الجديدة. لا شكّ أنّ العلم، بصفته معرفة، يُعتبر أساساً لموضوعين آخرين أيضاً، وذلك لأنّ جميع تأثيرات العلم ناشئة عن المعرفة العلمية. إنّ الإنسان، بسبب جهله بالأساليب والوسائل اللازمة، قد فشل في تحقيق آماله، وكلّما اقترب هذا الجهل من الزوال، ازداد الإنسان قرباً من دائرة التكيّف مع محيطه الماديّ ومحيطه الاجتماعي وفق المثال الذي وضعه لنفسه. و"إنّ قدرة العلم الجديدة هذه بالنسبة إلى تعميق إدراك الإنسان، مفيدة له، وبالنسبة إلى جهله مضرّة به. وعليه، إذا أُريد للتمدّن العلمي أن يكون تمدُّناً نافعاً، فلا بدّ من ازدياد الحكمة مع ازدياد العلم.

"إنّ قصدي من الحكمة هو إدراك أهداف الحياة الحقّة، وهذا بذاته لا يأتي به العلم. وبناءً على ذلك، فإنّه على الرغم من أنّ التقدّم العلمي واحد من العناصر اللازمة للتقدّم البشري، إلّا أنّ هذا لا يضمن إيجاد تقدّم حقيقي أبداً.
خلاصة رأي (راسل) هو أنّ العلم يزيد من هيمنة الإنسان على المحيط الطبيعي والمحيط الاجتماعي بحيث إنّه يستطيع أن يصوغهما كيفما يشاء، إلّا أنّ العلم لن يقدر أن يُلهم الإنسان هدفه الذي يُناسبه وكيف يطلبه. في الحقيقة، إنّ معرفة العالَم العلمية لا يُمكن أن تكون (منظوراً للعالَم) بالمعنى الصحيح لهذا المصطلح، أي إنّها لا يُمكن أن تُعيّن للإنسان وظيفته في العالَم، وأن تكون سبباً لخيره وصلاحه، وبعبارة أُخرى، إنّ ما يُطلق عليه اسم النظرة العلمية للعالَم، ليس بمقدوره أن يُصبح متّكأ عقائدياً إنسانياً واقعيّاً.
إنّ من مساوىء المعرفة العلمية الأخرى هي أنّ قيمة المعرفة العلمية أقرب إلى القيمة العلمية منها إلى القيمة النظرية، في حين إنّ ما يُمكن أن يكون صانعاً للمطامح، ومولداً للإيمان، ومتّكأً عقائدياً ليس سوى القيمة النظرية. فالقيمة النظرية تعني قدرة العلم على كشف حقيقة الوجود كما هي، والقيمة العلمية تعني قدرة العلم على إعانة الإنسان على التسلّط على الطبيعة والتصرّف فيها وتغييرها على وفق مراده.
إنّ الفصل بين هذين الأمرين يبدو مستحيلاً لأوّل وهلة. فأن يكون للعلم أو للفلسفة قيمة نظرية دون أن تكون لهما قيمة علمية لا يبدو عجيباً بقدر عجبنا في أن تكون لهما قيمة علمية دون قيمة نظرية.

إنّ من العجائب في عالَم اليوم هو أنّه بقدر ازدياد قيمة العلم العلمية يوماً بعد يوم تنخفض قيمته النظرية. إنّ الذين يتدفؤون بنار العلم من بعيد يظنّون أنّ تقدّم العلم ناشىء من استنارة الضمير الإنساني ومن الإيمان والاطمئنان بأنّ الواقع هو هذا الذي تنطبع صورته في مرآة العلم وتقدّمه الذي لا يُمكن إنكاره. غير أنّ الأمر على العكس من ذلك.
يقول (برتراند راسل) في كتابه الآنف الذكر، بعد أن يشرح نماذج من الأساليب العلمية في البحث وخصائصها، والحدود التي يدور فيها بحث علمي حول ما وراء الطبيعة: (أرى أنّ العالَم مجموعة من منطلقات تفتقر إلى وحدة لا ثباتَ لها ولا نظام ولا ترتيب، وتخلو من أيّ محتوى آخر يؤدّي إلى علاقة حبٍّ وتعلّق. في الواقع لو تغاضينا عن التعصّب والعادات، فمن النادر أن نستطيع الدفاع حتى عن وجود العالَم نفسه. وهذا بالطبع يشمل نظريّات الفيزيائيّين الأخيرة... فكيف ينبغي أن نُفكّر في الشمس اليوم؟ لقد كانت الشمس فيما مضى مصباح السماء النيِّر، وآلهة الأفلاك ذات الشعر الذهبي، ولكنّها اليوم ليست سوى أمواج من الاحتمالات. فإذا سألتم: ما هي هذه التي تدعونها احتمالات أو في أيّ محيط تسير هذه الأمواج؟ لأجابك الفيزيائي كالمجنون: لقد سمعنا كثيراً من هذا الكلام. لنفرض أنّنا أخذنا المسألة مأخذاً آخر، فماذا حينئذٍ؟ مع ذلك، إذا كنتم تُصرّون، سوف يُجيبكم قائلاً: إنّ الأمواج موجودة في معادلته والمعادلة في فكره).
ثم يقول أيضاً: "إنّه لأمر يدعو إلى العجب، ففي الوقت الذي نجد أكثر العلوم واقعية، الفيزياء، قد تخلّى عن المنطق العلمي، وبدلاً من أن يضع الإنسان في عالم صلد نيوتني، يجعله في قبال عالم خيالي وغير واقعي، لقد أصبح العلم أوفر ثمراً وأقوى من أيّ عصر مضى لكي يُقدّم للحياة الإنسانية نتائج أفضل.

إنّ انفصال العلم عن الفلسفة هو الذي جاء بخسائر لا يّمكن تلافيها. وهكذا نجد أنّ (الفلسفة العلمية) تلك الفلسفة التي تستند إلى بحوث جزئية وفرضيات واختبارات، يصل بها الأمر في النهاية إلى الاعتماد كلّياً على الحواس. فما مصير فلسفة كهذه؟ ليس هنا مجال تفصيل هذا الموضوع.
من نواقص المعرفة العلمية الأخرى هي أنّها من حيث وجهة نظرها الواقعية، وفي تلك الحدود التي تظهرها فيها، تبدو في مركز متزلزل غير ثابت. إنّ ملامح العالَم تتغيّر يوماً بعد يوم من حيث المنظور العلمي، وذلك لأنّ العلم يقوم على البحوث والفرضيات والاختبار، لا على البديهيات الأولية العقلية والأصول الثابتة التي لا تتغيّر. إنّ القوانين التي تستند على الفرضية والاختبار ذات قيمة مؤقّتة. وهي دائماً عرضة لظهور قوانين تنسخها. وبما أنّ المنظور العلمي للعالَم غير ثابت، فهو لا يصلح لأن يكون مرتكزاً عقائدياً. فالعقائد لا تكون عقائد حقّاً إلّا إذا استمسك بها الأفراد استمساكاً هو الإيمان المنظّم. والإيمان يتطلّب مرتكزاً ثابتاً لا يتزحزح، مرتكزاً يصطبغ بصبغة الخلود، ولذلك فإنّ المنظور العلمي لا يُمكن أن يكون هذا المرتكز بالنظر لمكانته المؤقّتة غير الثابتة.
منذ (هيـكل) طرحت فرضية تكامل الحقيقة. وهي فرضية ذات مفهوم خاص في الفلسفة الهيكلية، تعتمد صحّتها أو عدم صحّتها على صحّة الفلسفة الهيكلية أو عدم صحّتها بكلّيتها. وهذا ما لا نُريد الخوض فيه.

إنّ الذين لا يؤمنون بالفلسفة الهيكلية يسعون إلى التوسّل بفرضية تكامل الحقيقة لتعليل نواسخ الفرضيات العلمية. لقد سبق لي أنْ بحثت أُصول الفلسفة الواقعية في مقالة سابقة، وأثبتّ متى يكون مفهوم تكامل الحقيقة صحيحاً ومتى لا يكون.
لقد ظهر ممّا قُلناه أنّ النظرة إلى العالَم، إذا أُريد لها أن تزجر بالمطامح وأن تبني الإيمان ولكي تكون مرتكزاً للأيديولوجية، عليها أولاً أن تتجرّد من التحديدات التي تلازم المعرفة العلمية، وأن تُجيب على المسائل الخاصّة التي تطرحها المعرفة والتي تتعلّق بالعالَم كلّه من حيث الهيئة والماهية. وعليها ثانياً أن تتبنّى معرفة خالدة يعتمد عليها، لا معرفة مؤقّتة وسريعة الزوال. وثالثاً أن تكون لها قيمة نظرية ذات منظور واقعي، لا أن تكون عملية وفنّية فحسب. كما ظهر أيضاً أنّ المعرفة العلمية تفتقر إلى كلّ هذه المزايا، على الرغم من مزاياها المتعلّقة بجوانب أُخرى. وعليه، فإنّ المعرفة العلمية لا تستطيع أن تمنح الإنسان معرفة بالعالَم بالمفهوم الخاص، وتُجيب على تساؤلات الإنسان الذي يُريد تفسيراً عامّاً للوجود وتحليلاً شاملاً له.

إنّ جميع الذين تحدّثوا عن معرفة العالَم العلمية، أو أطلقوا على فلسفتهم اسم (الفلسفة العلمية)، تراهم، بعد التمحيص، قد ولجوا أماكن لا يضع العلم قدمه فيها. إنّهم استغلّوا أوجه شبه سطحية بين بعض فرضيّاتهم وبعض المعطيات العلمية، فأطلقوا على فلسفتهم خطأً اسم الفلسفة العلمية، وسمّوا نظرتهم إلى العالَم نظرة علمية. وهنا ينبغي ألّا ننسى التأثير الإعلامي لهذه التسميات.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة