السيد محمد باقر الصدر ..
التعليل الصحيح للمشكلة :
لأجل أن نصل إلى الحلقة الأُولى في تعليل المشكلة الاجتماعية ، علينا أن نتساءل عن تلك المصلحة المادّية الخاصّة التي أقامها النظام الرأسمالي مقياساً ومبرِّراً وهدفاً وغاية ، نتساءل : ما هي الفكرة التي صحَّحت هذا المقياس في الذهنية الديمقراطية الرأسمالية وأوحت به ؟ فإنّ تلك الفكرة هي الأساس الحقيقيّ للبلاء الاجتماعي وفشل الديمقراطية الرأسمالية في تحقيق سعادة الإنسان وتوفير كرامته . وإذا استطعنا أن نقضي على تلك الفكرة فقد وضعنا حدّاً فاصلاً لكلّ المؤامرات على الرفاه الاجتماعي ، والالتواءات على حقوق المجتمع وحرّيته الصحيحة ، ووفِّقنا إلى استثمار الملكية الخاصّة لخير الإنسانية ورقيّها وتقدّمها في المجالات الصناعية وميادين الإنتاج .
فما هي تلك الفكرة ؟
إنّ تلك الفكرة تتلخّص في التفسير المادّي المحدود للحياة الذي أشدّ عليه الغرب صرح الرأسمالية الجبّار ؛ فإنّ كلّ فرد في المجتمع إذا آمن بأنّ ميدانه الوحيد في هذا الوجود العظيم هو : حياته المادّية الخاصّة ، وآمن ـ أيضاً ـ بحرّيته في التصرّف بهذه الحياة واستثمارها ، وأنّه لا يمكن أن يكسب من هذه الحياة غاية إلاّ اللذّة التي توفِّرها له المادّة ، وأضاف هذه العقائد المادّية إلى حبّ الذات الذي هو من صميم طبيعته ، فسوف يسلك السبيل الذي سلكه الرأسماليّون ، وينفِّذ أساليبهم كاملة ، ما لم تحرمه قوّة قاهرة من حريّته ، وتسدّ عليه السبيل .
وحبّ الذات هو الغريزة التي لا نعرف غريزة أعمّ منها وأقدم ، فكلّ الغرائز فروع هذه الغريزة وشعبها بما فيها غريزة المعيشة. فإنّ حبّ الإنسان ذاته ـ الذي يعني : حبّه للذّة والسعادة لنفسه ، وبغضه للألم والشقاء لذاته ـ هو الذي يدفع الإنسان إلى كسب معيشته وتوفير حاجياته الغذائية والمادّية . ولذا قد يضع حدّاً لحياته بالانتحار إذا وجد أنَّ تحمُّل ألم الموت أسهل عليه من تحمُّل الآلام التي تزخر بها حياته .
فالواقع الطبيعي الحقيقي ـ إذن ـ الذي يكمن وراء الحياة الإنسانية كلّها ، ويوجّهها بأصابعه هو : حبّ الذات ، الذي نعبِّر عنه بحبّ اللذّة وبغض الألم ، ولا يمكن تكليف الإنسان أن يتحمّل مختاراً مرارة الألم دون شيء من اللذّة، في سبيل أن يلتذّ الآخرون ويتنعّموا ، إلاّ إذا سُلبت منه إنسانيّته ، وأُعطي طبيعة جديدة لا تتعشَّق اللذّة ، ولا تكره الألم .
وحتّى الألوان الرائعة من الإيثار التي نشاهدها في الإنسان ، ونسمع بها عن تأريخه ، تخضع في الحقيقة ـ أيضاً ـ لتلك القوّة المحرِّكة الرئيسية : (غريزة حبّ الذات) . فالإنسان قد يؤثر ولده أو صديقه على نفسه ، وقد يضحّي في سبيل بعض المثل والقيم ، ولكنّه لن يقدم على شيء من هذه البطولات ما لم يحسّ فيها بلذّة خاصّة ، ومنفعة تفوق الخسارة التي تنجم عن إيثاره لولده وصديقه ، أو تضحيته في سبيل مثل من المثل التي يؤمن بها .
وهكذا يمكننا أن نفسّر سلوك الإنسان بصورة عامّة في مجالات الأنانية والإيثار على حدٍّ سواء . ففي الإنسان استعدادات كثيرة للالتذاذ بأشياء متنوّعة : مادّية كالالتذاذ بالطعام والشراب ، وألوان المتعة الجنسية وما إليها من اللذائذ المادّية . أو معنوية كالالتذاذ الخُلُقي والعاطفي بقيم خُلُقية أو أليف روحيٍّ أو عقيدة معيّنة ، حين يجد الإنسان أنّ تلك القيم أو ذلك الأليف أو هذه العقيدة جزءٌ من كيانه الخاصّ .
وهذه الاستعدادات التي تهيّئ الإنسان للالتذاذ بتلك المتع المتنوّعة ، تختلف في درجاتها عند الأشخاص ، وتتفاوت في مدى فعليّتها باختلاف ظروف الإنسان وعوامل الطبيعة والتربية التي تؤثّر فيه . فبينما نجد أنّ بعض تلك الاستعدادات تنضج عند الإنسان بصورة طبيعية ، كاستعداده للالتذاذ الجنسي مثلاً ، نجد أنّ ألواناً أُخرى منها قد لا تظهر في حياة الإنسان ، وتظلّ تنتظر عوامل التربية التي تساعد على نضجها وتفتّحها . وغريزة حبّ الذات من وراء هذه الاستعدادات جميعاً ، تحدّد سلوك الإنسان وفقاً لمدى نضج تلك الاستعدادات ، فهي تدفع إنساناً إلى الاستئثار بطعام على آخر وهو جائع ، وهي نفسها تدفع إنساناً آخر لإيثار الغير بالطعام على نفسه ؛ لأنّ استعداد الإنسان الأوّل للالتذاذ بالقيم الخُلُقية والعاطفية الذي يدفعه إلى الإيثار كان كامناً ، ولم تتح له عوامل التربية المساعدة على تركيزه وتنميته . بينما ظفر الآخر بهذا اللون من التربية ، فأصبح يلتذّ بالقيم الخُلُقية والعاطفية ، ويضحّي بسائر لذّاته في سبيلها . فمتى أردنا أن نغيّر من سلوك الإنسان شيئاً ، يجب أن نغيّر من مفهوم اللذّة والمنفعة عنده ، وندخل السلوك المقترح ضمن الإطار العامّ لغريزة حبّ الذات .
فإذا كانت غريزة حبّ الذات بهذه المكانة من دنيا الإنسان ، وكانت الذات في نظر الإنسان عبارة عن طاقة مادّية محدودة ، وكانت اللذّة عبارة عما تهيّئه المادّة من متع ومسرّات ، فمن الطبيعي أن يشعر الإنسان بأنّ مجال كسبه محدودة ، وأنّ شوطه قصير ، وأنّ غايته في هذا الشوط أن يحصل على مقدار من اللذّة المادّية ، وطريق ذلك ينحصر بطبيعة الحال في عصب الحياة المادّية ، وهو : المال ، الذي يفتح أمام الإنسان السبيل إلى تحقيق كلّ أغراضه وشهواته . هذا هو التسلسل الطبيعي في المفاهيم المادّية الذي يؤدّي إلى عقلية رأسمالية كاملة .
أفَتَرى أنّ المشكلة تُحلّ حلاًّ حاسماً إذا رفضنا مبدأ الملكيّة الخاصّة ، وأبقينا تلك المفاهيم المادّية عن الحياة ، كما حاول أولئك المفكّرون ؟!
وهل يمكن أن ينجو المجتمع من مأساة تلك المفاهيم بالقضاء على الملكية الخاصّة فقط ، ويحصل على ضمان لسعادته واستقراره ؟! مع أنّ ضمان سعادته واستقراره يتوقّف إلى حدٍّ بعيد على ضمان عدم انحراف المسؤولين عن مناهجهم وأهدافهم الإصلاحية في ميدان العمل والتنفيذ ، والمفروض في هؤلاء المسؤولين أنّهم يعتنقون نفس المفاهيم المادّية الخالصة عن الحياة التي قامت عليها الرأسمالية ، وإنّما الفرق : أنّ هذه المفاهيم أفرغوها في قوالب فلسفية جديدة ، ومن الفرض المعقول الذي يتّفق في كثير من الأحايين ، أن تقف المصلحة الخاصّة في وجه مصلحة المجموع، وأن يكون الفرد بين خسارة وألم يتحمّلها لحساب الآخرين ، وبين ربح ولذّة يتمتّع بهما على حسابهم ، فماذا تقدّر للأُمّة وحقوقها وللمذهب وأهدافه من ضمان في مثل هذه اللحظات الخطيرة التي تمرّ على الحاكمين ؟ ! والمصلحة الذاتية لا تتمثّل فقط في الملكية الفردية ، ليقضى على هذا الفرض الذي افترضناه بإلغاء مبدأ الملكية الخاصّة ، بل هي تتمثّل في أساليب ، وتتلوّن بألوان شتّى ؛ ودليل ذلك ما أخذ يكشف عنه زعماء الشيوعية اليوم من خيانات الحاكمين السابقين ، والتوائهم على ما يتبنّون من أهداف .
إنّ الثروة تسيطر عليها الفئة الرأسمالية في ظلّ الاقتصاد المطلق والحرّيات الفردية ، وتتصرّف فيها بعقليّتها المادّية تُسلَّم ـ عند تأميم الدولة لجميع الثروات ، وإلغاء الملكية الخاصّة ـ إلى نفس جهاز الدولة المكوّن من جماعة تسيطر عليهم نفس المفاهيم المادّية عن الحياة ، والتي تفرض عليهم تقديم المصالح الشخصية بحكم غريزة حبّ الذات ، وهي تأبى أن يتنازل الإنسان عن لذّة ومصلحة بلا عوض . وما دامت المصلحة المادّية هي القوّة المسيطرة بحكم مفاهيم الحياة المادّية ، فسوف تستأنف من جديد ميادين للصراع والتنافس ، وسوف يُعرَّض المجتمع لأشكال من الخطر والاستغلال . فالخطر على الإنسانية يكمن كلّه في تلك المفاهيم المادّية ، وما ينبثق عنها من مقاييس للأهداف والأعمال . وتوحيد الثروات الرأسمالية ـ الصغيرة أو الكبيرة ـ في ثروة كبرى يُسلَّم أمرها للدولة من دون تطوير جديد للذهنية الإنسانية ، لا يدفع ذلك الخطر ، بل يجعل من الأُمّة جميعاً عمّال شركة واحدة ، ويربط حياتهم وكرامتهم بأقطاب تلك الشركة وأصحابها .
نعم ، إنّ هذه الشركة تختلف عن الشركة الرأسمالية في أنّ أصحاب تلك الشركة الرأسمالية هم الذين يملكون أرباحها ، ويصرفونها في أهوائهم الخاصّة ، وأمّا أصحاب هذه الشركة ، فهم لا يملكون شيئاً من ذلك في مفروض النظام ، غير أنّ ميادين المصلحة الشخصية لا تزال مفتوحة ، والفهم المادّي للحياة ـ الذي يجعل من تلك المصلحة هدفاً ومبرِّراً ـ لا يزال قائماً .
الشيخ مرتضى الباشا
إيمان شمس الدين
عدنان الحاجي
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد محمد حسين الطهراني
الفيض الكاشاني
الشيخ محمد هادي معرفة
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
المشكلة الإنسانية، جديد الدكتور حسن العبندي
الأسرة الدافئة (2)
السّيادة والتّسيّد وإشكاليّات التّغيير، الزهراء عليها السلام نموذجًا (2)
حبيبة الحبيب
السيدةُ الزهراءُ: دُرّةَ تاجِ الجَلال
السّيادة والتّسيّد وإشكاليّات التّغيير، الزهراء عليها السلام نموذجًا (1)
نمط حياتك قد ينعكس على صفحة دماغك ويؤدي إلى شيخوخته
الأسرة الدافئة (1)
جنة عدن
القرآن كتاب كامل ودائم ومستقلّ في دلالته