الدكتور حسن اللواتي ..
المبدأ الإنساني في الفيزياء الفلكية وعلم الكونيَّات هو “الاعتبار الفلسفي بأنَّ مشاهداتنا ورَصْدنا الفيزيائي للكون لا بد أنْ يكون مُتطابقًا مع وجود حياة عاقلة وواعية في الكون تقوم بتلك المشاهدات والرصد”.
العبارة الماضية على بساطة كلماتها إلا أنها تتطلَّب شرحًا ومقدِّمات إضافية للتيقن من أننا استوعبنا المقصود منها؛ فالسياق الذي نشأت فيه صياغة المبدأ الإنساني كان سياقَ البحث في القوانين الفيزيائية والثوابت الرقمية الفيزيائية، التي تميِّز الكون؛ من قبيل: مقدار القوة الكهرومغناطيسية بين الجسيمات الأولية بالمادة والقوى النووية الضعيفة والقوية، وعدد الأبعاد المكانية الكبيرة وكثافة المادة بالكون…وما إلى ذلك، وقد كان من نتائج هذا البحث أنَّنا وجدنا أنَّ تلك الكميات الفيزيائية الأساسية تقعُ في نطاق مُتوافق جدًّا مع نشوء الحياة العاقلة بالكون، والمذهل أنَّ نشوءَ الحياة ليس ممكنًا في الكون في حالة اختلاف تلك الكميات والقيم الفيزيائية بنسب بسيطة جدًّا عمَّا هي عليه. ولكي تتصوَّر ضخامة الموضوع، فإنه ينبغي عليك أن تعلم أنَّ هناك عددًا هائلًا جدًّا من الاختيارات الممكنة للحالات التي يُمكن أن يكون عليها الكون، تقدَّر بالرقم “واحد” وعلى يمينه 500 صفر (10 مرفوعة للأس 500)، وهو رقم لا يُمكنك حتى نطقه أو تصوُّر ضخامته. ومع ذلك، فإنَّه من ضمن كل تلك الحالات الممكنة الكثيرة التي كان من الممكن أن يكون فيها الكون، فإننا نجدُ أنَّ تلك الكميات بالكون في حالة واحدة متوافقة مع نشوء الحياة العاقلة فيه، ولو كان الكون في أيٍّ من الحالات الأخرى الممكنة، لما كان مُتوافقًا مع وجودك الآن لتقرأ هذه السطور. يُعبِّر ستيفن هوكنج عن هذا الأمر بالقول: “إنَّ الحقيقة اللافتة للنظر؛ هي: أنَّ قيم هذه الأرقام تبدو وكأنها قد تم ضبطها بدقة شديدة لجعل نشوء الحياة ممكنًا”. وبطبيعة الحال، فإنَّ هذا الأمر يُؤدي بالمرء إلى أنْ يخرج بنتيجة مفادها أنَّ تلك الأرقام قد تمَّ تحديدها بتلك الدقة المتناهية، وأنَّ حالة الكون الأساسية الحالية تم اختيارها بالتحديد من ضمن تلك المجموعة الهائلة من الحالات الممكنة لكي تنتج الحياة العاقلة فيه. وهذا بدوره يُؤدي إلى استنتاجيْن آخريْن على الأقل؛ أولهما: أنَّ هناك جهة ذكية وعاقلة وقادرة على ضبط الكون وخلقه بالطريقة المتناسبة مع نشوء الحياة العاقلة فيه. وثانيهما: أنَّ وجودَنا هنا في الكون أمرٌ مقصودٌ ومخطَّط له منذ لحظة تحديد تلك الثوابت الفيزيائية في بنية الكون الأساسية.
وكما هو مُتوقَّع جدًّا، فإنَّ هذه النتيجة -وبالذات القسم الأول منها- لم تكن مقبولة لدى فئة من الباحثين بالعلوم الطبيعية، ممن لا يميلون إلى فكرة وجود إله بالكون، أو ممن يروجون -بشكل نشط- للإلحاد. وبشكل عام، كان علماء الطبيعة منذ زمن نيوتن يملكون شعورًا بأنهم استطاعوا في نهاية المطاف أنْ يفكوا الخطوطَ العامَّة لشفرات الطبيعة الغامضة، عبر المنهج العلمي القائم على اختبار ومشاهدة ورصد وتجربة الأمور الخاضعة لنطاق الحس، وصياغة تعابير رياضية دقيقة لوصف الطبيعة. ومع أنَّ ذلك الإحساس قد تعرَّض لهزة من قبل ورنر هايزنبرج -الذي أسَّس لمبدأ الشك، أو اللايقين، كأساس للفيزياء الكمية- إلا أنَّ تلك الإضافة ظلَّت في نطاق الطبيعة والمحسوس، ولم تتطلب من العلماء غير تغيير بعض المفاهيم في التعامل مع الطبيعة. ولكن أن تخرج لهم مُشاهداتهم للكون بفكرة أنَّ هناك جهة فوق الطبيعة وغير خاضعة لقوانين الطبيعة، تقوم بخلق الطبيعة والكون وكل الأشياء، وتضبط بنية الكون الأساسية بشكل دقيق جدًّا لتنتج الحياة العاقلة بعد 14 مليار سنة من نشوء الكون، فإنَّ ذلك كان أمرًا أكبر من أن يستطيعوا قبوله وهضمه؛ لذا نشأتْ فكرة الأكوان المتعددة والمبدأ الإنساني؛ كمحاولة للالتفاف حول فكرة الضبط الدقيق للكون. مرة أخرى نقتبس من هوكنج كلامه بهذا الصدد: “قد يستعمل المرء هذا كدليل على وجود غاية إلهية في الخلق وكاختيار (إلهي) لقوانين العلم، أو (قد يفهم منها) دعمًا للمبدأ الإنساني القوي”. هناك عدَّة نسخ أو أصناف من المبدأ الإنساني، ولكل منها مُناصرون ومُعارضون؛ مما يُوضِّح لنا جدلية الأمر.. سنستعرض أشهر ما نوقش في هذا الأمر.
المبدأ الإنساني الضعيف (كارتر)
أول من طرح فكرة المبدأ الإنساني كان عالم “الفيزياء النظرية” الأسترالي براندون كارتر في العام 1973، وعبَّر عن المبدأ الإنساني الضعيف بأن “موقعنا (بالزمان والمكان) بالكون متميز بالضرورة؛ ليكون متوافقًا مع وجودنا كمراقبين” ، وكما تلاحظ فإن هذه العبارة لا تُعطينا من المعلومات أكثر مما نعلمه من حديثنا السابق عن الضبط الدقيق لثوابت الكون الفيزيائية؛ حيث لا نعلم من خلال هذا التعريف أيَّ شيء عن سبب ذلك الضبط الدقيق، ولا يخبرنا التعريف أيضا عن تلك الضرورة في كون موقعنا مميزًا في الكون؛ فالضرورة قد تكون ضرورة ثبوتية (Imperative Necessity)، وقد تكون ضرورة إثباتية (Deductive Necessity). والضرورة الإثباتية في هذه الحالة هي أن نقول إنه لو لم تكن ثوابت الكون الفيزيائية كما هي عليه، لما كنا هنا الآن نبحث في أمر تلك الثوابت؛ وبالتالي فإنَّ وجود الكون بالشكل المحدد الذي هو عليه هو من قبيل التحيُّز في اختيار عينة الاستقراء (Selection Bias)؛ أي من قبيل أن تذهب إلى منطقة معظم سكانها أغنياء، ثم لا تجد فيها الكثير من الفقراء؛ وبالتالي سيكون ذلك الاستقراء غير صالح للمعرفة؛ لأنَّ اختيار العينة فيه كان مُنحازًا للأغنياء. وكمثال آخر -لإيضاح هذه الضرورة- افترض أنَّ فرقة من عشرة عسكريين تريد إطلاق النار على شخص محكوم عليه بالإعدام، وعند إطلاق النار يجد هذا الشخص نفسه أنه لا يزال على قيد الحياة ويستنتج (بالضرورة الإثباتية) أنه لا بد أن يكون العسكريون العشرة قد أخطأوا في تصويبهم للنار له؛ لأنهم لو كانوا قد أصابوه لكان ميتًا الآن، وحيث إنَّه ليس بميت فهم قد أخطأوه بالضرورة. ولكن هذا التفسير بالضرورة الإثباتية لا يُجيبنا إطلاقًا عن السبب في إخطائهم بإصابته. أما الضرورة الثبوتية، فهي بمعرفتنا -مثلًا وفي نفس المثال- أنَّ أحدَهم قد قام بالتلاعب ببندقيات العسكريين العشرة بهدف إنقاذ المحكوم عليه من الموت. وفي موضوعنا، فإنَّ الضرورة التي نبحث عنها هي الضرورة الثبوتية، والتي تتمثل في الفرض بأنَّ الثوابت الكونية إنما تم ضبطها بالشكل الذي نلاحظه؛ بهدف إنتاج كائنات تستطيع إدراك ذلك الضبط الدقيق في مرحلة ما من مراحل تطور الكون.
المبدأ الإنساني القوي (كارتر)
“لا بد أن يكون الكون وثوابته بشكل يسمح بإيجاد مراقبين فيه في وقت من الأوقات” ، لاحظ أن الضرورة في (لا بد) هنا أيضًا غير واضحة في نوعها.
المبدأ الإنساني الضعيف (بارو وتبلر)
جون بارو وفرانك تبلر عالما الفيزياء النظرية والرياضيات والكونيات، عبَّرا عن المبدأ الضعيف بما يلي: “القيم الملاحظة للكميات الفيزيائية الكونية مقيَّدة بما يلزم لتطور حياة مبنية على الكربون بعد فترة كافية من الزمن”.
المبدأ الإنساني القوي (بارو وتبلر)
“يجب أن تكون خواص الكون بحيث تسمح بتطوُّر الحياة فيه في مرحلة من الزمن”. ومع أنَّ هذا التعبير مُشابه جدًّا لتعبير كارتر عن المبدأ القوي، فإننا نعتقد أنَّ الضرورة المقصودة من خلال كلمة “يجب” في تعبير بارو وتبلر مختلفة عن الضرورة المقصودة في تعبير كارتر من خلال كلمة “لا بد”؛ حيث إنَّ ضرورة كارتر هي ضرورة إثباتية، في حين أن ضرورة بارو وتبلر هي ضرورة ثبوتية، وهو ما يظهر من تعبير آخر استخدماه كما يلي: “يوجد هناك كون واحد ممكن (مصمَّم بهدف) إيجاد وبقاء المراقبين للكون”.
موقف علماء الفيزياء من المبدأ الإنساني
تضاربتْ مواقف الفيزيائيين من تفسير وتعليل المبدأ الإنساني بحسب الاتجاهات العقائدية لهم، ولأنَّ التيار السائد في الفيزيائيين الغربيين هو التيار الإلحادي -الذي يرفض مجرَّد قبول عقلانية فكرة وجود خالق فوق الطبيعة للكون، فضلًا عن الإيمان به- فإنه ليس غريبًا أن يتراوح موقفهم من هذا الموضوع بين اللاأدرية وبين البحث عن أي تفسير له رائحة شبه علمية لهذه “المصادفات الكونية”؛ فأولًا يتشبَّث أولئك الفيزيائيون بمصطلح “المصادفات الكونية” للابتعاد عن مصطلح “الضبط الدقيق” عند الحديث عن تلك الثوابت الكونية المحيرة والغامضة. وثانيًا: يلجأون إلى فرضيات لم تتوافر فيها معايير النظريات العلمية حتى بعد عقود من الزمن؛ من قبيل: معيار القابلية للاختبار، ومعيار القابلية للتخطئة، ومعيار إنتاج تنبؤات قابلة للملاحظة والرصد. وأشهر تلك النظريات: “نظرية الأوتار”؛ التي ظهرتْ في ثمانينيات القرن العشرين، ومرَّت بمراحل من القبول والرفض والإهمال والبحث، وتطوَّرت من شكل نظري رياضي لآخر حتى العام 1994؛ حيث طرح إدوارد ويتين -عالم فيزياء نظرية ورياضيات أمريكي- وباحثون آخرون ما يسمى بـ”نظرية إم”؛ وهي سلة من خمسة نسخ مختلفة من نظريات الأوتار كزوايا مختلفة للنظر لنفس الشيء. وكما أسلفنا؛ فإنَّ نظريات الأوتار لم تحظ بأيِّ دعم تجريبي منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، ولكن المهم هنا أنَّ نظرية الأوتار -أو “نظرية إم”، والأفضل في نظري أن تسمى بفرضيات وليس نظريات- تقدم مفهومًا نظريًّا آخر يفترض وجود عدد كبير جدًّا من الأكوان الأخرى غير الكون الذي نعيش فيه (وذلك العدد بالتحديد هو عشرة مرفوعة للأس الرياضي 500، والذي -كما تذكر من بداية هذا المقال- هو نفس العدد الذي قلنا إنَّه يُمثل الأشكال المختلفة الممكنة التي كان يمكن أن يكون عليها؛ كوننا في حالة تغير قيم ثوابته الفيزيائية)، ويفترضون أنَّ كلَّ واحد من تلك الأكوان له ثوابت فيزيائية مختلفة عن الأكوان الأخرى، وعليه فلا غرابة أن يكون أحد تلك الأكوان -الكثيرة جدًّا- ذا خصائص فيزيائية متوافقة مع الحياة؛ لأنها مسألة صدفة ليس إلا، وليس غريبًا أيضًا أن نجد أنفسنا في ذلك الكون بالتحديد؛ لأن بقية الأكوان لم تسمح بوجودنا.
خلاصة الموضوع
التفسيرُ والتعليلُ الذي يختاره الكثير من علماء الفيزياء للهروب من الاعتراف بوجود مُصمِّم أعظم للكون، وخالق أتقن ضَبْط خصائصه المحيِّرة، هو افتراض الأكوان المتعدِّدة الذي ليس له أي حظ من التجربة العلمية، ولا يتمتع بمعايير النظريات العلمية، وهو غير قابل للتجربة والملاحظة والرصد، ويستند لفرضيات الأوتار التي مرَّت عليها ثلاثة عقود ونصف العقد من الزمن دون دعم تجريبي.
الطريقُ الذي لجأ إليه علماء الفيزياء هذا، يجرُّ العلم في اتجاه مُختلف تمامًا؛ فهو يُضحِّي ببنية العلم الأساسية القائمة على الرصد والتجربة والملاحظة والاختبار والتنبؤات والقابلية للتخطئة؛ في سبيل دعم عقائد فكرية وفلسفية إلحادية خاصة لدى أولئك العلماء، وهو مُؤشِّر يجب أن ينتبه له الوسط العلمي قبل أن يجد العلم نفسه ضحية التحيز الفكري وعدم النزاهة في البحث.
الشيخ مرتضى الباشا
إيمان شمس الدين
عدنان الحاجي
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد محمد حسين الطهراني
الفيض الكاشاني
الشيخ محمد هادي معرفة
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الشيخ عبد الجليل البن سعد: القيم والتقوى: ركائز الأمان والتمييز في بحور النفس والمجتمع
عبور لنهر هيراقليطس، أمسية لهادي رسول في الخبر
برنامج أسريّ بعنوان: (مودّة ورحمة) في جمعيّة تاروت الخيريّة
المشكلة الإنسانية، جديد الدكتور حسن العبندي
الأسرة الدافئة (2)
السّيادة والتّسيّد وإشكاليّات التّغيير، الزهراء عليها السلام نموذجًا (2)
حبيبة الحبيب
السيدةُ الزهراءُ: دُرّةَ تاجِ الجَلال
السّيادة والتّسيّد وإشكاليّات التّغيير، الزهراء عليها السلام نموذجًا (1)
نمط حياتك قد ينعكس على صفحة دماغك ويؤدي إلى شيخوخته