علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

البدعة

«البِدعة» في اللّغة تعني العَمَل الجديد والذي لاسابق له، الذي يبيّن نوعاً من الحُسن والكمال في الفاعل، فلفظ «البديع» من صفات الله كما نعلم كما، قال تعالى: (بَدِيعُ السَّمَوتِ وَالأَرضِ).

وأمّا المفهومُ الاصطلاحيّ للبدعة، فهو أيضاً نسبةُ ما ليس من الشريعة إلى الشريعة، وأكثر التعاريف اختصاراً للبدعة الإصطلاحيّة هو: «إدخالُ ما ليسَ مِنَ الدّيِنِ في الدينِ».

إنَّ الابتداع في الدين من الذُنوب الكبيرة، وهو مما لا شك قط في حرمته فقد قال رسولُ الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ: «كلُّ مُحدَثَة بِدعَة وكلُّ ضَلالة في النّار».

والنقطةُ المهمّة الوحيدةُ في مسألة البِدعة هي أن يُحدَّدَ مفهومُ «البِدعة» بصورة جامِعة ومانِعة ليمكن تمييزُ ما هو بدعةٌ عمّا ليس ببدعة.

 

وفي هذا الصَّعيد، ولإزالة الإبهام عن حقيقة «البدعة» يجب الالتفات والانتباه إلى نقطتين:

1. إنّ البِدعة نوعٌ من التصرّف في الدِين، وذَلك بإحداث الزيادة أو النقص فيه. وعلى هذا الأساس إذا لم يَكُن إحداثُ شيء، مما يرتبطُ بالدِّين والشريعة، بل كان أمراً عاديّاً أو عُرفيّاً لم يكن بدعةً (وإن كانت مشروعيّته مشروطة بأن لا يكونَ الابتداع والإبتكار المذكور محرَّماً أو ممنُوعاً في الشرع بدليل خاص).

وللمثال: إنّ البشريّة تبتكرُ باستمرار أساليب جديدة في مجال المسكن والـمَلبس وغير ذلك من وسائل العيش وخاصّة في عصرنا الحاضر الذي تتطور فيه الأساليب والأدوات المستخدَمة في المعيشَة باستمرار، وبشكل متواصل ونضربُ على ذلك مثلاً أنواع النزهة والرياضة الجديدة، بل والمتجدّدة على الدوام.

إنّ من البديهي أنّ كلَّ هذه الأشياء والأُمور نوعٌ من البدعة والأُمور البديعة (بمعنى ما لم يكن له سابق) ولكنها لا صلة لها بالبدعة المصطلَح عليها شرعاً.

إنّما تتوقَّفُ حليّتُها وحليّةُ الاستفادةِ منها ـ كما قلنا ـ على أن لا تكونَ مخالِفةً لأحكام الشَرع وموازينه.

فمثلاً اختلاط الرجلِ والمرأة من دون حجاب في المجالس، والمحافل ـ الذي هو من مستورَدات الغرب الفاسد، ومعطيات ثقافته المنحرفة ـ حرامٌ، إلاّ أنّه ليس ببدعَة، لأنّ الذين يشتركونَ في هذه المحافل لا يأتونَ بهذا العمل باعتباره عملاً أقرّ الشرعُ الإسلاميُ صحَّته وقرَّره، بل ربما أتَوا به من بابِ اللاّمبالاة مع الاعتقاد بأنّه مخالفٌ للشرع ولهذا ربما تنبَّهوا وعادوا لرشْدهِمْ فقرّرُوا بجديّة تركَه، وعدم الاشتراك فيه.

وانطلاقاً من التوضيح السابقِ إذا عيَّنَ شعبٌ مّا يوماً، أو بعض الأيّام للفَرحَ والابتهاج والاجتماع، ولكن لا بقصد أنّ الشرع أمرَ بهذا لم يكن مثل هذا العمل (بدعة) وإن كانت حليّةُ أو حرمة هذا العمل من جهات أُخرى يجب أن تقع محطّاً للبحث والدراسة.

من هنا اتّضح أنَّ الكثيرَ من مبتكرات البشر، وبدائعه، في مجال الفنّ والرياضة، والصناعة وغير ذلك خارجٌ عن نطاق البدعة الاصطلاحية، وما يقالُ حول حرمَتها، أو حليّتها، إنّما هو ناشئ من جهات أُخرى ولهما ملاكٌ ومقياسٌ خاص.

 

2. إنّ أساس «البدعة» في الشرع يرجع إلى نقطة واحدة وهي الإتيان بعمل بزعم أنّه أمرٌ شرعيٌّ أمَرَ به الدين في حين لا يوجد لمشروعيته أيُّ أصل ولا ضابطة، ولكن اذا أَتى بعمل على أنّه أمر شرعي ويدل على مشروعيته دليل شرعي (بشكل خاص، أو بصورة كليّة وعامّة) لم يكن ذلك العملُ بدعةً.

ولهذا قالَ العالِمُ الشيعيُّ الكبيرُ العلاّمةُ المجلسي: «البدعة في الشرع ما حَدَثَ بعد الرَسول ولم يكن فيه نصٌّ على الخصوصِ ولا يكونُ داخلاً في بعضِ العمومات».

وقال ابن حجر العسقلانيّ: «البِدعة ما أُحدِثَ وليسَ لهُ أصلٌ في الشَرعَ. وما كان له أصلٌ يدل عليه الشرع فليس بِبِدعة». فإذا كان العملُ الذي نَسَبْناه إلى الشرع يستندُ إلى دَليل خاصّ، أو ضابطة كليّة في الشرع لم يكن بدعةً حتماً.

والصورةُ الأُولى (أيْ وجود الدليل الخاص) لا يحتاج إلى بيان.

إنّما المهم هو القِسم الثاني لأنّه ربَّ عَمَل كانَ في ظاهرهِ عَملاً مبتدَعاً جديداً ومبتكراً، ولم تكن له سابقةٌ في الإسلام، ولكنّه في معناه وحقيقتهِ يدخُلُ تحت ضابطة أقرَّها الشرعُ الإسلاميُّ بصورة كليّة.

ونضرب لذلك مثلاً: ما يقومُ به جماهيرُ المسلمين العظمى من الاحتفالِ بمولدِ النبيّ الأكرم ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ ويراهُ البَعض أو يسمّونه بِدعة، في حين لا ينطبق عليه عنوان البدعة وملاكُها، في ضوء ما قلناه، لأنّه على فرضِ أنّ هذا النمطَ من التكريم وإظهار المحبّة والتكريم لم يَردْ في الشرع بخصوصهِ. ولكنَّ موَدّة النبيّ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ  وحُبَّه وحبَّ أهل بيته المطهَّرين سلام الله عليهم أجمعين يُعتبر أحد أُصول الإسلام الضروريّة وتُعتَبَر هذه الاحتفالات والاجتماعات الدينية البهيجة مِن مظاهر ذلك الأصل الكليّ ونعني المحبة والمودة للنبي وآله.

فقد قال رسولُ الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : «لا يؤمِنُ أحدُكم حتّى أكونَ أحبَّ إليه مِن مالِهِ وأهْلِهِ والناسِ أجمعين». ولا يخفى أن الذين يُظهِرُون البَهجة والفرح في مواليد رسول الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ وأهل بيته الطاهرين، ويقيمون لأجل هذه الغاية، الاحتفالات والمجالس لا يهدفون من إقامة الاحتفال في هذه الأيام إلى أنّ هذه الأعمال منصوصٌ عليها ومأمُور بهِا شرعاً بعينها وشكلها الراهن، بل يفعلون هذه الأعمال باعتقاد أنّ حُبَّ النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ  والمودّة لرسول الله وأهل بيته أصلٌ كلّيٌ وَرَدَ التأكيد عليه في الكتاب والسُّنة بتعابير مختلِفة ومتنوّعة. إنّ القرآنَ الكريم يقول:(قُلْ لا أسْئَلُكُمْ عَليه أجراً إلاّ المودّة في القَربى).

 

وهذا الأصلُ يمكن أن تكونَ له تجلياتٌ ومظاهرُ مختلِفة ومتنوّعة، منها إقامة هذه الاحتفالات البهيجة على حياة المسلمين الفرديّة والاجتماعية، فأنّ إقامة الإحتفالات، في الحقيقة مما يذكّرِ بنزول الرحمةِ والبركةِ الإلهيّة في هذه الأيّام، وهي نوعٌ من أنواع الشُكر لله تعالى أو عملٌ باعث عليه، وهذا المطلب (إي إقامة الاحتفال في يوم نزول الرحمة والفيضِ الربانيّ) كان في حياة الأُمم السابقة أيضاً كما يصرّحُ بذلك القرآنُ الكريمُ.

فقد طلَبَ النبيُّ عيسى ابنُ مريم ـ عليه السَّلام ـ مائدةً سماويّة تنزلُ عليه وعلى حواريّيه ليكونَ يومُ نزول تلك المائدة عيداً للجيل الذي كان يعيش بينهم، وللأجيال اللاحقة كما يقولُ تعالى: (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَءَايَةً مِنكَ).

أضف إلى ذلك انّ الله تعالى يقول في آية أُخرى في مجال تكريم النبي الأكرم ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : (فَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). فإنّ الله تعالى يأمر الناسَ في هذه الآية بأربعة أُمور:

1. الإيمان بالنبيّ (آمَنُوا بهِ).

2. تكريم النبيّ وتعظيمه (عَزّرُوهُ).

3. نصرته (نَصَرُوه).

4. إتّباع القرآن (واتَّبَعُوا النُّور الذي أُنزِل مَعَهُ...).

 

فلزومُ التكريم والتعظيم للنبيّ كما هو واضح أصلٌ دينيٌّ وقرآنيّ، وله في كل زمان مصاديق ومجالي خاصّة: فالصلاةُ والسلام على النبيّ وأهلِ بيته عند ذكر اسمِهِ، وإظهارُ الفرح والابتهاج يومَ ولادته وبعثته، وكذا إعلانُ الحزنِ والأسى في مأتمه ومأْتم أهل بيته، وحفظُ آثارِ النبيّ وتعمير مرقده الطاهر وحفظُ آثار أهل بيته، وتعميرُ مراقدهم الطاهرة، كلّها وكلُّها مصاديقُ لإظهار المودّة والمحبّة للنبيّ الأكرم وعترتِهِ الطاهرة صلواتُ الله عليهم أجمعين.

على أنّه يجب أن لا يتصوَّر أحَدٌ بأنّ محبّة النبيّ وأهل بيته ومودّتَهم تنحصرُ في هذه الأُمور فقط، بل يجب الانتباه إلى أنّ اتّباعَهم في أقوالهم وأفعالهم، والذي جاءَت الأشارة إليه في الآية أدناه أيضاً هو من أظهر مصاديق محبّتهم ومودّتهم، كما أنّه سببٌ لنيلِ العِناية الإلهيّة واللطفِ الربانيّ كما قال: ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبوُّنَ اللهَ فَاتَّبِعُوني يُحبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُم).

والبِدعَة ـ كما أسلَفْنا ـ عبارةٌ عن نوع من التصرّف في الدّين من دون أن يكون له مستندٌ صحيحٌ (خاصٌّ أو كلِّيٌ عامٌّ) في الشرع، ويجب التنويه بأنّ روايات أئمةّ أهلِ البيت ـ عليهم السَّلام ـ  ـ بحكم حديث الثقلين المتواتر ـ تُعَدُّ من مصادر الشريعة، وأدلّةِ الأَحكام الدينيّة وعلى هذا الأساس إذا صرَّحَ الأئمةُ المعصومُون ـ عليهم السَّلام ـ بجواز أو عدم جواز شيء كان اتّباعهم في ذلك اتّباعاً للدِين ولم ينطبق عليه عنوانُ الإبتداع والإحداث في الدّين.

 

وفي الخاتمة نُذَكّر بأنّ «البدعة» بمعنى التَصَرُّف في الدين من دون إذن الله سبحانه كان ولا يزال عَمَلاً قبيحاً وحراماً وقد أشار إليه القرآن بقوله: (ءَاللهُ أَذِنَ لَكُمْ أمْ عَلى اللهِ تَفْتَرُونَ). وعلى هذا الأساس لا يصحُّ تقسيم البِدعة (بهذا المعنى) إلى القبيح والحَسَن والحرامِ والجائزِ، بل كلُّها (بهذا المعنى) حرامٌ غير جائز.

نعم البِدعة بمعناها اللغويّ العامّ (أي الإتيان بأشياء حديثة في أُمور المعيشة من دون نسبة ذلك إلى الشرع) يمكن أن تكون له صُوَرٌ مختلفة ومتنوّعة، وتكون مشمولةً لأَحد الأحكام التكلِيفيّة الخمسة: (الوجوب والحرمة والكراهة والإستحباب والإباحة).

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد