مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

دور القلم في حياة الإنسان

إنّ من أهمّ معالم التطور في الحياة البشرية هو ظهور الخطّ وما ثبّته القلم على صحائف الأوراق والأحجار، إذ إنّ هذا الحدث أدّى إلى فصل (عصر التاريخ) عن (عصر ما قبل التاريخ).

إنّ ما يثبته القلم على صفحات الورق هو الذي يحدّد طبيعة الانتصار أو الانتكاسة لمجتمع ما من المجتمعات الإنسانية، وبالتالي فإنّ ما يسطّره القلم يحدّد مصير البشر في مرحلة ما أو مكان ما.. فالقلم هو الحافظ للعلوم، المدوّن للأفكار، الحارس لها، وحلقة الاتّصال الفكري بين العلماء، والقناة الرابطة بين الماضي والحاضر، والحاضر والمستقبل. بل حتّى موضوع ارتباط الأرض بالسماء قد حصل هو الآخر عن طريق اللوح والقلم أيضًا.

 

فالقلم يربط بين بني البشر المتباعدين من الناحية الزمانية والمكانية، وهو مرآة تعكس صور المفكّرين على طول التاريخ في كلّ الدنيا وتجمعها في مكتبة كبيرة.

والقلم: حافظ للأسرار، مؤتمن على ما يستودع ، وخازن للعلم، وجامع للتجارب عبر القرون والأعصار المختلفة. وإذا كان القرآن قد أقسم به فلهذا السبب، لأنّ القسم غالبًا لا يكون إلّا بأمر عظيم وذي قيمة وشأن.

 

ومن الطبيعي عندئذ أن يكون (القلم) وسيلة لـ (ما يسطرون) من الكتابة، ونلاحظ القسم بكليهما لقد أقسم القرآن الكريم بـ (الوسيلة) وكذلك (بحصاد) تلك الوسيلة (وما يسطرون).

وجاء في بعض الروايات «إنّ أوّل ما خلق الله القلم».

نقل هذا الحديث محدّثو الشيعة عن الإمام الصادق عليه ‌السلام (1).

وجاء هذا المعنى أيضًا في كتب أهل السنّة في خبر معروف (2).

وجاء في رواية أخرى: (أوّل ما خلق الله تعالى جوهرة) (3).

وورد في بعض الأخبار أيضًا: (إنّ أوّل ما خلق الله العقل) (4).

 

ويمكن ملاحظة طبيعة الارتباط الخاصّ بين كلّ من (الجوهرة) و (القلم) و (العقل) الذي يوضّح مفهوم كونهم أوّل ما خلق الله سبحانه من الوجود.

جاء في نهاية حديث عن الإمام الصادق عليه ‌السلام إنّ الله تعالى قال للقلم بعد خلقه إيّاه: اكتب ، وأنّه كتب ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة.

وبالرغم من أنّ المقصود من القلم في هذه الرواية هو قلم التقدير والقضاء، إلّا أنّ جميع ما هو موجود من أفكار وعلوم وتراث، وما توصّل إليه العقل البشري على طول التأريخ، وما هو مثبت من مبادئ ورسالات وتعاليم وأحكام.. يؤكّد على دور القلم في الحياة الإنسانية ومصير البشرية.

 

إنّ قادة الإسلام العظام لم يكتفوا بحفظ الأحاديث والروايات والعلوم والمعارف الإلهية في ذاكرتهم بل كانوا يؤكّدون على كتابتها، لتبقى محفوظة لأجيال المستقبل (5).

وقال بعض العلماء: (البيان بيانان: بيان اللسان، وبيان البنان، وبيان اللسان تدرسه الأعوام، وبيان الأقلام باق على مرّ الأيّام) (6).

وقالوا أيضًا: (إنّ قوام أمور الدين والدنيا بشيئين: القلم والسيف، والسيف تحت القلم) (7).

وقد نظّم بعض شعراء العرب هذا المعنى بقولهم:

كذا قضى الله للأقلام مذ بريت

أنّ السيوف لها مذ أرهفت خدم

(إنّ هذا التعبير إشارة بديعة إلى بري القلم بواسطة السكين، وجعل الشفرة الحادّة بخدمة القلم من البداية) (8).

ويقول شاعر آخر:

إذا أقسم الأبطال يومًا بسيفهم

وعدوّه ممّا يجلب المجد والكرم

كفى قلم الكتاب فخرًا ورفعة

 مدى الدهر إنّ الله أقسم بالقلم (9)

 

وإنّه لحقّ، وذلك أنّه حتّى الانتصارات العسكرية إذا لم تستند وترتكز على ثقافة قويّة فإنّها لن تستقيم طويلًا. لقد سجلّ المغول أكبر الانتصارات العسكرية في البلدان الإسلامية، ولأنّهم كانوا شعبًا سطحيًّا في مجال المعرفة والثقافة فلم يؤثّروا شيئًا، وأخيرا اندمجوا في حضارة الإسلام وثقافة المسلمين وغيّروا مسارهم.

وننهي كلامنا هنا بحديث معبّر عن رسول الله صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم في هذا الموضوع حيث يقول: «ثلاثة تخرق الحجب، وتنتهي إلى ما بين يدي الله: صرير أقلام العلماء، ووطء أقدام المجاهدين، وصوت مغازل المحصنات» (10).

ومن الطبيعي أنّ كلّ ما قيل في هذا الشأن، يتعلّق بالأقلام التي تلتزم جانب الحقّ والعدل، وتهدي إلى صراط مستقيم، أمّا الأقلام المأجورة والمسمومة والمضلّة، فإنّها تعدّ أعظم بلاء وأكبر خطر على المجتمعات الإنسانية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1). نور الثقلين ، ج 5 ، ص 389 ، حديث 3.

(2). تفسير الفخر الرازي ، ج 3 ، ص 78.

(3). المصدر السابق.

(4). المصدر السابق.

(5). وسائل الشيعة ، ج 18 ، ص 56 (حديث 14 ، 16 ، 17 ، 18 ، 19 ، 20).

(6). تفسير مجمع البيان ، ج 10 ، ص 332.

(7). المصدر السابق.

(8). المصدر السابق.

(9). روح البيان ، ج 10 ، ص 102.

(10). (الشهاب في الحكم والآداب) ، ص 22.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد