وجوب مودّتهم وحبّهم (3)
السؤال الثاني
دلَّت الآية الكريمة على أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فرض مودة ذي القربى، على المسلمين ولكن يبقى هناك سؤال وهو أنّ الآية تحتمل وجهين:
أ: أن يكون المراد مودة ذوي القربى من أقرباء النبي وأهل بيته.
ب: أن يكون المراد ودّ كلّ مسلم أقربائه وعشيرته ومن يمُّت إليه بصلة، وليس في الآية ما يدل على المعنى الأوّل.
أقول: إنّ ذي القربى كما علمت بمعنى صاحب القرابة والوشيجة النسبية، ويتعَّين مورده بتعينُّ المنسوب إليه، وهو يختلف حسب اختلاف موارد الاستعمال، ويستعان في تعيينه بالقرائن الموجودة في الكلام، وهي:
الأشخاص المذكورون في الآية أو ما دلَّ عليه سياق الكلام.
فتارة يراد منه الأقرباء دون شخص خاص، مثل قوله سبحانه: (ما كانَ لِلنَّبي وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكينَ وَلَو كانُوا ذوي قُربى).(1) وقوله سبحانه: (فَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُربى).(2)
فإنّ ذكر النبي والذين آمنوا معه آية على أنّ المراد قريب كلّ إنسان إليهما، كما أنّ جملة (فإذا قلتم فاعدلوا) آية أنّ المراد كل إنسان قريب إليه.
وأمّا قوله سبحانه: (قُلْ لا أَسأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ المَوَدَةَ فِي القُربى) فالفعل المتقدّم عليه يعنى (لا أسألكم) آية أنّ المراد أقرباء السائل، مثل قوله سبحانه: (ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرى فَلِلّهِ وَالرَّسُولِ وَلِذِي القُربى).(3) فإنّ لفظة (على رَسُولِهِ) آية أنّ المراد أقرباء الرسول.
وعلى ذلك فلابدّ من الرجوع إلى القرائن الحافَّة بالآية وتعيين المراد منه، وبذلك ظهر أنّ المراد هو أقرباء الرسول.
يقول الإمام أمير الموَمنين (عليه السلام) ناقداً انتخاب الخليفة الأوّل في السقيفة لأجل انتمائه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرابة:
وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم
فغيـرك أولى بالنبـي وأقـرب(4)
السؤال الثالث
إنّ سورة الشورى سورة مكية، فلو كان المراد من ذوي القربى هو عترته الطاهرة، أعني: عليّاً وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) فلم يكن يومذاك بعض هؤلاء كالحسن والحسين (عليهما السلام)؟.
والجواب: إنّ الميزان في تمييز المكي عن المدني، أمران، وكلاهما يدلان على أنّ الآية نزلت في المدينة المنورة.
الأمر الأوّل: دراسة مضمون الآيات
فقد كانت مكافحة الوثنية والدعوة إلى التوحيد والمعاد هي مهمة النبي قبل الهجرة، ولم يكن المجتمع المكّي مؤهلاً لبيان الأحكام والفروع أو مجادلة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولذلك تدور أغلب الآيات المكّية حول المعارف والعقائد والعبرة بقصص الماضين، وما يقرب من ذلك.
ولمّا استتب له الأمر في المدينة المنورة واعتنق أغلب سكّانها الإسلام حينها سنحت الفرصة لنشر الإسلام وتعاليمه ولمناظرة اليهود والنصارى حيث كانوا يثيرون شبهاً ويجادلون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت آيات حول اليهود والنصارى في السور الطوال.
فلو كان هذا هو الميزان بغية تميّز المكّي عن المدني، فالآية مدنية قطعاً دون ريب لعدم وجود أيَّة مناسبة لسؤال الأجر أو طلب مودة القربى من أُناس لم يؤمنوا به بل حشَّدوا قواهم على قتله، بخلاف البيئة الثانية فقد كانت تقتضي ذلك حيث التفَّ حوله رجال من الأوّس والخزرج وطوائف كثيرة من الجزيرة العربية.
الأمر الثاني: الاعتماد على الروايات والمنقولات
فلو كان هذا هو الميزان فقد صرح كثير منهم بأنّ أربعةً آيات من سورة الشورى مكّية، حتى أنّ المصاحف المطبوعة في الأزهر وغيره، تصرح بذلك وتُقرأ فوق السورة هذه الجملة: سورة الشورى مكية الآيات إلاّ ثلاث وعشرين وأربع وعشرين وسبع وعشرين.
أضف إلى ذلك أنّ كثيراً من المفسرّين والمحدِّثين صرحوا بذلك.(5)
وهذا هو البقاعيّ مؤلف «نظم الدرر وتناسب الآيات والسور» يصرح بأنّ الآيات مكية، كما نقله المحقّق الزنجاني في «تاريخ القرآن».(6)
السؤال الرابع
الإنسان مفطور على حب الجميل وكراهة القبيح فيكون الودّ أمراً خارجاً عن الاختيار، فكيف يقع في دائرة السؤال ويطلبه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المؤمنين مع أنّه كذلك.
والجواب: أوّلاً: أنّ الحبّ لو كان أمراً خارجاً عن الاختيار فلا يتعلَّق به الأمر، كما لا يتعلَّق به النهي، مع أنّه سبحانه ينهى عن ود من حادَّ اللّه ورسوله، ويقول: (لا تَجد قَوماً يُؤمِنُونَ بِاللّهِ وَاليَومِ الآخِرِ يُوادّونَ من حادّ اللّهَ وَرَسُولَهُ).(7)
كما أنّه (ص) يدعو إلى التراحم والتعاطف النابعين عن الود والحب، ويقول: مثل المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».(8)
كلّ ذلك يدل على أنّ الودّ والبغض ليس على النسق الذي وصفه السائل، ولذلك نرى الدعوة الكثيرة إلى الحب في اللّه والبغض في اللّه.
قال الإمام الصادق (عليه السلام): «من أوثق عرى الإيمان أن تحب في اللّه وتبغض في اللّه».(9)
وقد كتب الإمام علي (عليه السلام) إلى عامله في مصر مالك الأشتر رسالة قال فيها: «واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم».(10)
روى الخطيب في تاريخه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالب (عليه السلام)».(11)
وقال (ص): «من سرّه أن يحيا حياتي، ويموت مماتي، ويسكن جنة عدن غرسها ربي، فليوال علياً بعدي، وليوال وليّه، وليقتد بالأئمّة من بعدي، فإنّهم عترتي خلقوا من طينتي، رزقوا فهماً وعلماً».(12)
روى أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «من أحبني فليحب عليّاً».(13)
وأخرج أحمد في مسنده عن الرسول: «من أحبني وأحب هذين وأباهما وأُمّهما، كان معي في درجتي يوم القيامة».(14)
وثانياً: أنّ الإيصاء إنّما لا يفيد إذا لم يتوفر في الموصى له ملاك الحب والود كما إذا كان الرجل محطاً للرذائل الأخلاقية، وأمّا إذا كان الموصى له إنساناً مثالياً متحلياً بفضائل الأخلاق ومحاسنها، فإنّ الإيصاء به يعطف النظر إليه وبالتالي يجيش حبه كلَّما تعمَّقت الصلة به.
وحاصل الكلام: أنّ دعوة الناس إلى الحبّ تقوم على إحدى دعامتين:
الأولى: الإشادة بفضائل المحبوب وكمالاته التي توجد في نفس السامع حبّاً وولعاً إليه.
الثانية: الإيصاء بالحب والدعوة إلى الودّ، فإنّه يعطف نظر السامع إلى الموصى له، فكلَّما توطَّدت الأواصر بنيهما وانكشفت آفاق جديدة من شخصيته ازداد الحبّ والود له. وعلى كلّ تقدير فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المحبوب التام لعامة المسلمين، فحبُّه لا ينفك عن حبّ من أوصى بحبِّه وأمر بودّه.
وخير ما نختم به هذا البحث حديث مروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نقله صاحب الكشاف حيث قال، قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): «من مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفوراً له، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات تائباً، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمناً مستكمل الإيمان، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد بشرَّه ملك الموت بالجنة ثمّ منكر ونكير، ألا ومن مات على حبّ آل محمد يُزفُّ إلى الجنة كما تزفُّ العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد فتح اللّه له في قبره بابين إلى الجنّة، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد جعل اللّه قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة والجماعة، ألا ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيساً من رحمة اللّه، ألا ومن مات على بغض آل محمّد مات كافراً، ألا ومن مات على بغض آل محمّد لم يشم رائحة الجنة».(15)
وروي أيضاً: أنّه لما نزلت هذه الآية، قيل: يا رسول اللّه من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ فقال (ص): «علي وفاطمة وأبناهما».(16)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. التوبة: 113.
2. الأنعام: 152.
3. الحشر: 7.
4. شرح ابن أبي الحديد:18|416.
5. انظر الكشاف: 3|81؛ تفسير الرازي: 7|655؛ تفسير أبي السعود في هامش تفسير الرازي نفس الصفحة؛ تفسير أبي حيان: 7|516؛ تفسير النيسابوري:6|312. وأمّا من المحدّثين كمجمع الزوائد للهيتمي:9|168؛ الصواعق المحرقة:101 ـ 135، والزرقاني في شرح المواهب:7|3و921.
6. تاريخ القرآن: 57.
7. المجادلة: 22.
8. مسند أحمد: 4|270.
9. سفينة البحار: 2|11 مادة الحبّ.
10. نهج البلاغة: قسم الرسائل: الرسالة 53.
11. تاريخ بغداد: 4|410.
12. حلية الأولياء: 1|86.
13. مسند أحمد:5|366؛ صحيح مسلم: ج كتاب الفتن: 119.
14. مسند أحمد:1|77.
15. الكشاف:3|82، تفسير سورة الشورى، ط عام 1367.
16. الكشاف:3|81
الشيخ شفيق جرادي
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ محمد صنقور
الشيخ فوزي آل سيف
عدنان الحاجي
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ محمد مصباح يزدي
حيدر حب الله
حسين آل سهوان
أحمد الرويعي
أسمهان آل تراب
حسين حسن آل جامع
أحمد الماجد
فريد عبد الله النمر
علي النمر
حبيب المعاتيق
زهراء الشوكان
الشيخ علي الجشي
الصبر الزينبي والبصيرة الزينبية
معنى آخر للموت
وقف الزّمان
أنواع التّجلّيات
زينب (والمصائب والأحزان) (2)
حقوق أهل البيت (عليهم السلام) في القرآن الكريم (5)
السجَّاد (ع) هو مَن دفن الحسين (ع) (2)
قافلة السبايا في الكوفة بعد كربلاء (2)
زينب (والمصائب والأحزان) (1)
حقوق أهل البيت (عليهم السلام) في القرآن الكريم (4)