قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد صنقور
عن الكاتب :
عالم دين بحراني ورئيس مركز الهدى للدراسات الإسلامية

{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}

قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}(1) كيف يمكن تصوّر اجتماع الإيمان بالله تعالى والشرك به؟

 

معنى الإيمان:

 

الإيمان ليس معناه العلم والتصديق بوجود الله تعالى ووحدانيته وحسب، فذلك قد يتَّفق للكافر، فقد يقطعُ الإنسان بوجود الله تعالى ولا يُساوره شك في وحدانيته ورغم ذلك لا يكونُ مؤمناً كما هو الشأن في إبليس فإنَّه عالمٌ بوجود الله تعالى وأنَّه واحدٌ لا شريك له لا يساوره شك في هذا الشأن ورغم ذلك فهو غير مؤمنٍ، وذلك لأنَّ الإيمان لا يعني مجرَّد العلم والتصديق بوجود الله ووحدايته بل معناه – كما أفاد العلامة الطباطبائي(2) - الالتزام بمؤدَّى هذا التصديق وعقد القلب على ما يقتضيه هذا التصديق وهو العبودية لله تعالى وعبادته وحده، فمَن علم بوجود الله وقطع بتوحيده ولكنَّه لم يلتزم بالعبوديَّة لله تعالى ولم يَظهر أثرُ الالتزام بالعبوديَّة على ما يفعل ولو في الجملة فهذا عالمٌ لكنَّه ليس مؤمناً.

 

ويُؤيد ما ذكرناه من أنَّ مجرَّد العلم والتصديق لا يعني الإيمان قولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى}(3) فرغم تبيُّن الهدى لهم والذي يعني العلم واليقين لكنَّ ذلك لم يمنع مِن وصف الآية لهم بالذين كفروا، فالعلمُ واليقين لا يُساوق الإيمان، وكذلك هو الشأنُ في قوله تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ}(4) فالآية وصفتهم بالجحود -والذي يعني الكفر المقابل للإيمان- رغم يقينِهم.

 

الإيمان يزيد وينقص:

 

وعليه فإذا كان الإيمان لا يعني مجرَّد العلم والتصديق وإنَّما يعني مضافاً إلى ذلك الالتزام القلبي بمؤدَّى التصديق وبما يقتضيه التصديق بنحوٍ تظهرُ آثاره العمليَّة على السلوك ولو في الجملة، فإذا كان ذلك هو معنى الإيمان فهو يزيدُ وينقصُ ويقوى ويضعف كما أكَّدت على ذلك العديد من الآيات كقوله تعالى:{ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ}(5) وقوله تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}(6) وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}(7)

 

لا يمتنع اجتماع الإيمان والشرك:

 

ومقتضى أنَّ الإيمان يزيدُ وينقص ويقوى ويضعف أنَّه ليس على مرتبةٍ واحدة بل هو على مراتبَ متفاوتة، ولهذا لا يمتنع اجتماع الإيمان والشرك، فالإيمان الذي يمتنعُ اجتماعه مع الشرك هو محضُ الإيمان أي الإيمان بمرتبته الكاملة، وأما الإيمان بمراتبه الدانية فهو إيمان نسبي فكلَّما قرُبَ من مرتبة الكمال ابتعد بقدره عن الشرك، وكلَّما بعُد عن مرتبة الكمال اقترب من مرتبة الشرك، فالمؤمنُ ذو الإيمان الناقص مؤمنٌ بالقياس إلى الشرك المحض وهو في ذات الوقت مشركٌ بالقياس إلى الإيمان المحض الكامل، وهذا هو معنى نسبية الإيمان ونسبيَّة الشرك، فالشركُ والإيمان الناقصان نسبيَّان، ولا يمتنع اجتماعهما، ولهذا يوصف المؤمن المرائي بالمشرك بالشرك الخفي، ومقتضى ذلك هو إمكان اجتماع الإيمان الناقص والشرك الناقص، والذي يمتنع اجتماعه إنَّما هو الإيمانُ المحض والشرك المحض.

 

معنى الآية الشريفة:

 

وبذلك يتَّضح مفاد الآية الشريفة، فمعنى قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} هو أنَّ أكثر مَن يُؤمن من الناس يشوبُ إيمانهم شركٌ، وذلك لنقص إيمانهم، فهم مؤمنون بالقياس إلى الشرك المحض ولكنَّهم في ذاتِ الوقت مشركون بالقياس إلى الإيمان المحض.

 

أكثر المؤمنين متلبِّسون بمرتبةٍ من الشرك:

 

وبتعبير آخر: إنَّ مفاد الآية الشريفة هو أنَّ أكثر المؤمنين بالله تعالى متلبِّسون بمرتبةٍ من الشرك، فنجدُ أنَّ الإنسان رغم إيمانه بالله تعالى إلا أنَّه يلتمس الرزق من غيره ويؤمَّله ويخضعُ له وقد يعصي الله في سبيل رضاه رغم إيمانه: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}(8) ونجد الإنسان رغم إيمانه بالله يلتمسُ العزَّة والجاه من غيره، فيحرص على تملُّقه والتزلُّف إليه رغم إيمانه أنَّ:{ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}(9) وكذلك نجدُ الإنسان يخافُ من نظيره الإنسان، وقد يدفعه الخوف إلى الخضوع والممالئة على الباطل رغم إيمانه أنَّ الذي يضرُّ وينفع هو الله تعالى وحده، وهكذا نجدُ المؤمن يجزع عند المصيبة رغم إيمانه بوعد الله تعالى وأنَّه يوفِّي الصابرين أجرَهم بغير حساب، ونجدُ المؤمن يتعلَّق بالدنيا وزينتها ويخلد إليها ويغفل طويلاً عن حقيقةٍ يؤمنُ بها وهي الدار الآخرة، فلا يعمل بما يقتضيه الإيمان بهذه الحقيقة، وما ذلك إلا لعدم تمكُّنِ الإيمان بهذه الحقيقة من قلبِه، وهذا هو معنى نقص الإيمان ونسبيَّته الذي لا يمنعُ من التلبُّس بمرتبةٍ من الشرك النسبي. 

 

مفاد الروايات يؤكِّد هذا الفهم للآية:

 

ويؤكد هذا الفهم للآية الشريفة ما ورد في تفسير العياشي عن مالك بن عطية عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله:{وما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلَّا وهُمْ مُشْرِكُونَ} قال: هو الرجل يقول: لولا فلان لهلكتُ، ولولا فلان لأصبتُ كذا وكذا، ولولا فلانٌ لضاع عيالي، ألا ترى أنَّه قد جعل لله شريكاً في ملكه يرزقُه ويدفع عنه، قال: قلتُ: فيقول: لولا أنَّ الله منَّ عليَّ بفلان لهلكتُ؟ قال: نعم لا بأس بهذا"(10) 

 

فهذا الرجل رغم إيمانه بالله تعالى يعتقدُ أنَّ نجاته لم تكن لتقع لولا فلان، وأنَّه لولاه لضاعَ عيالُه وأصابتهم الفاقة، وأنَّ فلاناً هو الدافعُ أو المانعُ من هذا أو ذاك، فجعل بذلك لله شريكاً مِن حيثُ لا يشعر، فهو وإنْ كان يُؤمن ارتكازاً بأنَّ الله تعالى هو الرازقُ والدافعُ والمانع وبيده النجاةُ والهلاك لكنَّه يغفل فيتعاطى مع الأسباب المجعولة من الله تعالى وكأنَّها الأصل الذي ليس له ما وراء، وهذا هو معنى التلبُّس بالشرك رغم الإيمان، ولهذا ورد في الحديث أنَّ : "الشرك أخفى في هذه الأمة من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء"(11) 

 

مصداقٌ آخر للآية الشريفة:

 

وورد في تفسير العياشي عن يعقوب بن شعيب قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} قال: كانوا يقولون: يُمطر نوء كذا، ونوء كذا لا يُمطر، ومنها أنَّهم كانوا يأتون العرفاء فيصدِّقونهم بما يقولون"(12)

 

وهذه الرواية الشريفة تذكر مصداقاً آخر للآية المباركة، فثمة مَن يعتقد أنَّ نزول الأمطار وامتناع نزولها مسببٌ عن حركة النجوم ويغفل عن أنَّ ذلك لو صحَّ فإنَّها لا تعدو كونها أسباباً مجعولة من الله أو علامات يُستدلُّ بها على نزول المطر وأنَّ الله تعالى هو مَن يمنح عباده المطر أو يحرمهم منه، وكذلك ثمة مَن يقصدون العرفاء والكهنة يسألونهم عن المغيبات ويصدِّقونهم رغم إيمانهم بأنَّ الله تعالى لم يُطلع مثل هؤلاء على غيبه. فالإيمانُ حين لا يكون كاملاً فإنَّه لا يمنعُ من التلبُّس بالشرك النسبي.

 

معنى شرك طاعة وليس شرك عبادة:

 

هذا وقد ورد عن أهل البيت (ع) في مقام تفسير الآية المباركة أنَّ الشرك الذي يكون عليه المؤمن هو شركُ طاعة وليس شركَ عبادة، فمن ذلك معتبرة ضُرَيْسٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) فِي قَوْلِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: {وما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلَّا وهُمْ مُشْرِكُونَ} قَالَ: شِرْكُ طَاعَةٍ ولَيْسَ شِرْكَ عِبَادَة.."(13)

 

ومنه: رواية أَبِي بَصِيرٍ وإِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) فِي قَوْلِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: {وما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلَّا وهُمْ مُشْرِكُونَ}: قالَ: يُطِيعُ الشَّيْطَانَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ فَيُشْرِكُ"(14)

 

ومنه: معتبرة الفضيل عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله تبارك وتعالى: {وما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلَّا وهُمْ مُشْرِكُونَ} قال: شركُ طاعة، وليس شركَ عبادة، والمعاصي التي يرتكبون شركُ طاعة، أطاعوا فيها الشيطان فأشركوا بالله في الطاعة لغيره، وليس باشراك عبادة أنْ يعبدوا غير الله" (15)

 

فمفاد هذه الروايات أنَّ طاعة المخلوق في معصية الخالق، وطاعة الشيطان، وهوى النفس في مقابل أمر الله تعالى ونهيه هو الشرك الذي عنتْه الآية المباركة، وهذا المعنى متَّسقٌ مع ما تقدَّم من معنى الآية المباركة، فطاعةُ الشيطان والانسياق مع هوى النفس إنَّما ينشأ عن عدم تمكُّن الإيمان من القلب، لذلك لا يكون هذا الإيمان مانعاً من التلبُّس بالشرك، فطاعةُ الشيطان نحوٌ من الشرك، لأنَّ من أطاع الشيطان يكون قد أشرك مع الله في الطاعةِ غيرَه، فهو مؤمنٌ لأنَّه معتقِدٌ بأنَّ حقَّ الطاعة إنَّما هي لله وحده إلا أنَّ ضعفه قادَه إلى معصية الله وإطاعة الشيطان، فالضعف هو ما قاده إلى أن يُشرك مع الله غيرَه في الطاعة، فجمع بين الإيمان النسبي والشرك النسبي. وهذا هو معنى قوله تعالى: {وما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلَّا وهُمْ مُشْرِكُونَ}.

 

تفاوت مقدار الشرك الذي يلابس الإيمان:

 

ثم إنَّ مقدار هذا الشرك الذي يلابس إيمان المؤمن يتفاوتُ بتفاوت درجة الإيمان، فكلَّما ضعف الإيمان اشتدَّ ما يُساورُه من الشرك، وكلَّما اشتدَّ الإيمان ضعف ما يُساوره من الشرك، إلى أنْ يصل الإيمان حدَّاً لا يشوبه شركٌ وإنْ كان ضئيلاً، وذلك لا يتَّفق إلا لمن عصمهم الله تعالى، فهم معصومون من أدنى مراتب الشرك، وهذا هو مفاد قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(16) فالرجس الذي أذهبَه الله تعالى عن أهل بيت نبيِّه (ص) هو الشرك المطلق بمختلف مراتبه والذي من أثره الطهارة الكاملة العاصمة من مطلق الذنوب.

 

كما في المأثور عن الإمام جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام قال : قال علي بن أبي طالب عليه السلام : إن الله عز وجل فضلنا أهل البيت، وكيف لا يكون كذلك؟ والله عزَّ وجلَّ يقول في كتابه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} فقد طهَّرنا الله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فنحن على منهاج الحق"(17)

 

وصحيحة سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ الْهِلَالِيِّ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) قَالَ: إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى طَهَّرَنَا وعَصَمَنَا وجَعَلَنَا شُهَدَاءَ عَلَى خَلْقِه وحُجَّتَه فِي أَرْضِه وجَعَلَنَا مَعَ الْقُرْآنِ، وجَعَلَ الْقُرْآنَ مَعَنَا لَا نُفَارِقُه ولَا يُفَارِقُنَا"(18)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- سورة يوسف: 106.

2-تفسير الميزان - العلامة الطبأطبائي- ج 18/ 261

3-سورة محمد: 32.

4-سورة النمل: 14.

5- سورة الفتح: 4

6- سورة الأحزاب: 22.

7-سورة محمد: 17.

8- سورة الذاريات: 58.

9- سورة النساء: 139.

10- تفسير العياشي- محمد بن مسعود العياشي- ج2/  200.

11- معاني الأخبار- الصدوق-379، وسائل الشيعة - الحر العاملي- ج16/ 255.

12-تفسير العياشي- محمد بن مسعود العياشي- ج2/  199. وسائل الشيعة – الحر العاملي- ج11/ 373.

13- الكافي – الكليني-ج 2/ 397.

14-الكافي – الكليني-ج 2/ 397.

15- تفسير القمي- علي بن إبراهيم القمي- ج1/ 358.

16- سورة الأحزاب: 33.

17- بخار الأنوار- المجلسي-25/ 213.

18- الكافي- الكليني- ج1/ 191.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد