قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد باقر الحكيم
عن الكاتب :
عالم فقيه، وأستاذ في الحوزة العلمية .. مؤسس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق ، استشهد سنة٢٠٠٣

منهاج بحث القصة في القرآن الكريم (2)


السيد محمد باقر الحكيم ..

المنهج التقليدي التجزيئي
المنهج الأول: هو المنهج الذي سار عليه المفسرون منذ بداية عصر التفسير وذلك من خلال تناول الآيات القرآنية بحسب تسلسل دورها في القرآن الكريم آية بعد أخرى.
والتوجه العام في هذا المنهج هو تفسير المفردات والأحداث في القصة كما وردت في ذلك الموضع والمقطع من أجل فهمها في حدود موردها.
والأسلوب العام المتبع في هذا المنهج هو تفسير المفاهيم اللغوية، والبحث في الاحتمالات التاريخية والعقائدية حول المفردات. والتوسع أحياناً في مناقشة الآراء المختلفة حولها. ومحاولة التركيب بين الوقائع في حدود المضمون العام للمقطع استناداً إلى المأثور عن النبي وأهل البيت (عليهم السلام) أحياناً أو الصحابة والتابعين وأهل الكتاب في الغالب.
ويمكن أن نجد نموذجاً لهذا المنهج في تفسير مجمع البيان للطبرسي والتفسير الكبير للفخر الرازي وتفسير الميزان للعلامة الطباطبائي مع وجود الفرق بينهم في التوسع والتحليل والاستطراد.
وقد أضاف العلامة الطباطبائي لهذا المنهج تقديم خلاصة كاملة عامة عن قصة نبي من الأنبياء اختار لها موضعاً مناسباً من موارد القصة، حاول فيها أن يقتصر على ما ذكره القرآن الكريم فيها من مفاهيم، مع تقسيم القصة إلى عدة أقسام يذكر فيها صفات النبي التي ذكرها القرآن الكريم بطريقة استعراضية والوضع العام لقومه والأحداث التي رافقت حياته.
وبهذا الأسلوب يكون العلامة الطباطبائي قد قدم لنا منهجاً آخر متطوراً في عرض القصة القرآنية سوف نشير إليه، ولا سيما أنه يضيف إلى هذا العرض بعض الأبحاث التاريخية العامة أو المستفادة من الكتب الدينية السابقة ويتناولها بالبحث والتمحيص.
وقد اعتمد العلامة الطباطبائي في هذا التطوير على منهجه التفسيري العام الذي يحاول فيه الاعتماد على القرآن الكريم وحده ويميز فيه بين ما هو قرآني وغير قرآنى، كما يحاول أن يجمع فيه بين التفسير التجزيئي والتفسير الموضوعي.
وقد يبدو للمتابع أن العلامة الطباطبائي قد تأثر في هذا المنهج بالمنهج الذي اتبعه عبد الوهاب النجار في كتابه قصص القرآن، ولكن مع أحداث تطوير في العرض كما أشرنا ولا سيما وأن العلامة الطباطبائي يتناول الأبحاث والإشارات التي ذكرت في هذا الكتاب ويأخذ منه أحياناً بعض الموضوعات بإشارة أو بدون إشارة.
ومن البديهي فان ذلك لا يقلل من أهمية الانجاز الذي حققه العلامة الطباطبائي في كتابه الميزان.
وبذلك يكون قد جمع العلامة الطباطبائي بين منهج البحث التجزيئي في القصة حيث يستفيض في تحليله ومتابعة ومناقشة الآراء في الموارد المختلفة حسب ورود القصة من ناحية وبين منهج عرض القصة بصورة عامة كموضوع قرآني. ومقارنتها أحياناً بالأبحاث الأخرى ذات العلاقة بها سواء الدينية منها كما وردت في النصوص والروايات وكتب العهدين أو التاريخية الإنسانية.


المنهج الحديثي
المنهج الثاني: الذي يتناول قصص الأنبياء كموضوع مستقل من خلال النصوص الدينية التي وردت عن النبي وأهل بيته والصحابة والتابعين، ويمكن أن نذكر نموذجاً لذلك في أعمال وكتابات كل من ابن كثير الدمشقي في كتابه (قصص الأنبياء) والمجلسي في كتابه (البحار) قسم قصص الأنبياء، حيث يتم ذكر الآيات القرآنية ذات العلاقة بالمقطع أو الجانب الخاص للقصة ثم ذكر الروايات المتعددة التي وردت حولها.
ويمتاز ابن كثير في بحثه هذا بعدة امتيازات تجعله النموذج الأمثل في العرض والأسلوب لهذا المنهج، مع قطع النظر عن مدى وثاقة النصوص أو النتائج التي ينتهي إليها في البحث.
الميزة الأولى: هي تقطيع القصة إلى عدة فصول تتناسب مع تسلسلها التاريخي وإيراد الآيات والروايات ذات العلاقة بالفصل المذكور، وأما المجلسي فهو يفصلها بطريقة أخرى لا يلاحظ فيها التسلسل التاريخي؟
فمثلا نجد العلامة المجلسي في البحار يذكر العناوين التالية - فقط - في قصة ابراهيم عليه السلام:
1 - علل تسمية إبراهيم وسنه وفضائله ومكارم أخلاقه وسننه ونقش خاتمه.
2 - قصص ولادته إلى كسر الأصنام وما جرى بينه وبين نمرود (فرعون زمانه) وبيان حال أبيه.
3 - إراءته ملكوت السماوات والأرض وسؤاله إحياء الموتى والكلمات التي سأل ربه وما أوحي إليه وصدر عنه من الحكم.
4 - جمل أحواله ووفاته.
5 - أحوال أولاده وأزواجه صلوات الله عليهم وبناء البيت.
6 - قصة الذبح وتعيين الذبيح.


واما ابن كثير، فقد ذكر في كتابه (قصص الانبياء) العناوين التالية في قصة إبراهيم عليه السلام
1 - قصة ابراهيم الخليل.
2 - ذكر مناظرة الخليل مع من أراد أن ينازع الخليل.
3 - ذكر هجرة الخليل إلى بلاد الشام ودخول الديار المصرية واستقراره بالأرض المقدسة.
4 - ذكر مولد اسماعيل من هاجر.
5 - ذكر مهاجرة إبراهيم بابنه اسماعيل وأمه هاجر إلى جبال فاران وهي أرض مكة وبنائه البيت العتيق.
6 - قصة الذبح
7 - ذكر مولد اسحاق.
8 - ذكر بنائه البيت العتيق.
9 - ذكر ثناء الله ورسوله الكريم على عبده وخليله ابراهيم.
10 - ذكر قصره في الجنة.
11 - ذكر صفة إبراهيم عليه السلام.
12 - ذكر وفاة إبراهيم الخليل وما قيل في عمره.
13 - ذكر أولاد ابراهيم الخليل.


وبملاحظة هذه العناوين يمكن أن نلاحظ أحد الميزات بين هذين الأسلوبين في هذا النهج، حيث أنهما يسيران في بقية الأنبياء على هذا الأسلوب.      
الميزة الثانية: أن ابن كثير يتناول النصوص المختلفة بالبحث والتحليل من حيث المضمون والسند ولا سيما عندما تكون مختلفة ويطبق عليها الضوابط العلمية التي يؤمن بها على طريقة مذهب أهل الحديث.
وأما العلامة المجلسي فهو لا يهتم بهذا الجانب كثيراً إلا بالقدر الذي يصحح فيه الجانب المذهبي والعقائدي عندما يبدو التنافي بين النص وبين هذا الجانب المذهبي، ولذا لا يأتي البحث مستكملًا لجميع الجوانب.
الميزة الثالثة: أن ابن كثير يحاول أن يبرز ظاهرة النفوذ والتسلل لثقافة اهل الكتاب (الاسرائيليات) في التراث المأثور حول هذه القصص، وإن كان يقف عاجزاً أحياناً أمام بعض الروايات التي رويت بطريق معتبر - على مذهبه في الحديث - فيتحير في أمرها أو يسلِّم بها على مضض.
واما المجلسي فيكتفي - كما أشرنا - بمناقشة ما يكون ظاهرها خلاف المتبنيات العقائدية المذهبية.
ولعل هذا الفرق إنما كان بسبب أن التراث الذي يعتمد عليه العلامة المجلسي وهو الروايات عن طريق أهل البيت عليهم السلام لم يتأثر بالاسرائيليات إلاّ بصورة محدودة، وان أحد الضمانات المهمة في هذا المجال هو المبادىء العقائدية المذهبية المسلِّمة لدى اتباع أهل البيت التي توضح الموقف من هذه الاسرائيليات، ولذا يتناولها بالبحث والتحليل عندما يواجه مثل ذلك.
ولكن يبقى الاهتمام بمراقبة عملية التسلل لثقافة اهل الكتاب في نفسها عملية مهمة تحتاج إلى متابعة خاصة وهي ميزة لصالح منهج ابن كثير مقارناً بمنهج المجلسي.
ولكن لابد أن نشير هنا أيضاً إلى أن أكثر المؤلفين على طبق هذا المنهج قد اخذوا قسطاً كبيراً من رواياتهم من ثقافة أهل الكتاب، لأنهم كانوا يمثلون مصدراً مهماً من مصادر هذه الروايات، ولعل أكثر الروايات التي رويت عن الصحابة والتابعين تستند إلى أهل الكتاب مضافاً إلى حدوث التزوير والوضع من الرواة المتأخرين، وبهذا السبب الثاني يفسّر ما نلاحظه في بعض ما روي عن أهل البيت عليهم السلام مما يمكن نسبته إلى الاسرائيليات، وكأن هذا المنهج ينطلق من مبدأ فهم ان اكثر النصوص غير القرآنية كانت من موروثات أهل الكتاب أنفسهم.


المنهج الحسي التجريبي
المنهج الثالث: هو المنهج الذي يحاول أن يقترب من أحداث قصص الأنبياء والظواهر الغيبية أو غير العادية فيها من الواقع الحسي التجريبي والنتائج التي توصلت إليها البشرية في معرفتها بالسنن الاجتماعية والأسرار العلمية أو اكتشاف بعض الظواهر الشاذة في القوانين والأنظمة الكونية، والتوجه العام فيه هو تقريب هذه الصور والظواهر من الإدراك الحسي البشري الذي سيطر على العقل الإنساني من خلال المدرسة الوضعية وتجارب العلوم الإنسانية، فهو محاولة لمعالجة الوضع النفسي والروحي الذي شهدته المجتمعات الإنسانية ولا سيما الإسلامية منها بعد النهضة الصناعية والغزو الاستعماري والاتجاه إلى العلمنة والتجارب والاستكشافات العلمية.
وقد كان من خصائص هذا المنهج هو محاولة الاقتصار على خصوص ما ورد في القرآن الكريم مع تفسيره وتأويله بما ينسجم مع هذا التقريب والرجوع إلى غير القرآن الكريم بمقدار ما يساهم في توضيح وتأييد هذا المضمون والتوجه ورد ما عدا ذلك في النصوص الأخرى.
ويمكن أن نجد نماذج من الباحثين يمثلون هذا التوجه والنهج في الشيخ محمد عبده في بعص أبحاث تفسير المنار وعبد الوهاب النجّار في كتابه قصص الأنبياء. ولعل محاولة الشيخ محمد عبده في إنكاره لواقعية بعض القصص القرآنية وتفسيرها على أنها تمثيل للواقع ينطلق من الثقافة العامة تفادياً لبعض الإثارات حول هذه القصص. وكذلك الضجة التي أثارها كتاب النجار عند صدوره الأمر الذي انتهى إلى محاكمته من قبل الأزهر وتشكيل لجنة للتحقيق في كتابه تنطلق من هذا الاتجاه في تفسير القصة.
ويمكن أن نجد معالم لهذا الاتجاه في بعض مواقفهم تجاه بعض الظواهر الغريبة ومحاولة تفسيرها تفسيراً علمياً أو تجريبياً.
ويعتبر هذا المنهج في الطرف الآخر من المنهج السابق (المنهج الحديثي) حيث يجمد ذلك المنهج على النصوص ويأخذ بها على أي حال. وأما هذا المنهج فهو يحاول أن يستخدم العقل والرأي في تفسير النص القرآني ما يلائم الفهم البشري التجريبي والحسي للأشياء.


ويمكن أن نلاحظ على هذا المنهج:
أولًا: أن من الأهداف والأغراض المهمة للقصة القرآنية - كما ذكرناه في كتابنا القصص القرآني - هو تربية الإنسان على الإيمان بالغيب، ولذلك يمثل هذا الاتجاه في التفسير اتجاهاً مغايراً للأهداف الرئيسية في القصة القرآنية بل للقرآن كلّه.
ثانياً: إنّ دراستنا وتحليلنا لتطور الرسالة الإلهية انتهى بنا إلى أنّ الرسالات الإلهية السابقة كانت متدرجة في مخاطبة العقل الإنساني في قضايا الغيب والحس بحيث يمكن أن نلاحظ أنه كلّما تطوّر الإنسان في مجتمعه وإدراكاته كلّما اتجهت الرسالات الإلهية إلى مخاطبة العقل الإنساني بصورة اكثر تركيزاً حتى كانت الرسالة الإسلامية الخاتمة التي اهتمت بصورة أساسية بمخاطبة العقل الإنساني إلى جانب تربيته على الإيمان بالغيب. وهذا التحليل يعني أنّ الرسالات السابقة كانت تخاطب الجانب الغيبي في الإنسان الذي له تأثير مباشر في قضية الإيمان بالغيب يتناسب مع المستوى العقلي للإنسان في مراحله السابقة. ومن ثم فإنّ هذه الظاهرة الغيبية هي واقع لا محيص عنه في قصص الأنبياء السابقين.
ثالثاً: إننا وإن كنا نفهم الأغراض الصالحة لبعض هؤلاء البحاثين في سلوك هذا المنهج وذلك لمعالجة الوضع النفسي والروحي القائم بما يخدم قضية الإيمان وفهم الدين، ولكن الإغراق في هذا التوجه وتجاوز قضية الأغراض القرآنية في التربية على الغيب والتسليم له هو مما يؤاخذ على هذا المنهج كما أشرنا إلى ذلك في الملاحظة الأولى.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة