من التاريخ

حول إسلام أبي طالب (رض)

 

الشيخ محمد جواد مغنية
قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}(التّوبة: 113).
تكلّم النّاس كثيراً حول إسلام أبي طالب عمّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، واختلفت فيه الأقوال، ووضعت فيه الكتب قديماً وحديثاً، وأثير هذا الموضوع على صفحات مجلة العربي في العدد 108 و 110 .
واستدلّ القائلون بإسلامه بما لاقاه في سبيل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) من سراة قومه وصناديدهم، وبأقواله في مدح الرّسول شعراً ونثراً.
أمّا القائلون بأنّه مات على الشِّرك، فقد استدلّوا بروايات تقول: إنّ هاتين الآيتين نزلتا في شأن أبي طالب .
وحين بلغت في التفسير إلى هنا، تتبّعت الروايات والأقوال في صفحات الماضي والحاضر حول السّبب لنزول الآيتين، فخرجت بأنّ الرواة والمفسِّرين افترقوا في سبب نزول الآيتين إلى ثلاثة أقوال .
 

القول الأوّل:
إنّ جماعة من المؤمنين قالوا: نستغفر لموتانا المشركين، كما استغفر إبراهيم (عليه السلام) لأبيه، فنزلت الآيتان. ذكر هذا القول الطّبري والرازي وأبو حيان الأندلسي في تفسير البحر المحيط، وصاحب تفسير المنار وغيرهم. وهذا القول أرجح من قول الآخرين، لأنّ في الآيتين كلمات تشعر به، منها قوله تعالى: {والَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى}، فنهي المؤمنين عن الاستغفار لأقربائهم المشركين، يشعر بأنهم كانوا يستغفرون لهم، أو حاولوا ذلك، ومنها قوله: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ}[التّوبة: 114]، فإنّه يحسن جواباً عن قول المؤمنين: كما استغفر إبراهيم لأبيه .
القول الثاني:
إنّ النبي (صلى الله عليه واله) أتى قبر أمّه، وبكى عنده، واستأذن ربّه أن يستغفر لها، فنزلت الآيتان، ذكر هذا القول الذين نقلنا عنهم القول الأوّل. وهذا القول، أي أنّ الآيتين نزلتا حين بكى النبيّ عند قبر أمّه، أرجح من القول إنهما نزلتا حين وفاة عمّه أبي طالب، لأنّ أبا طالب مات في مكّة عام الحزن، أي قبل الهجرة بثلاث سنوات، وسورة التّوبة التي جاءت فيها الآيتان، نزلت بالمدينة سنة تسع للهجرة، أي بعد وفاة أبي طالب بحوالى 12 سنة .
القول الثّالث:
إنّ الآيتين نزلتا في أبي طالب، بدعوى أنّ النبي قال لعمه أبي طالب وهو يحتضر: أي عم، قل لا إله إلا الله، فامتنع... فقال النبيّ: لأستغفرنّ الله لك ما لم أنه عنك .
وردّ هذا القول جماعة من العلماء؛ أوّلاً بأنّ الآيتين - كما أشرنا - نزلتا بعد وفاة أبي طالب. ثانياً: بأنّ أبا طالب مات بعد أن أسلم وأخلص في إسلامه (انظر الغدير للأميني، ج 7 ص 369 وما بعدها، طبعة سنة 1967).
ولو صرفنا النظر عن أقوال المفسّرين والرواة، وعلّلنا عقيدة أبي طالب تعليلاً يستمدّ مقوّماته من طبيعة الحال، لو فعلنا ذلك، لجاءت النتيجة أن أبا طالب كان يؤمن بصدق محمد (صلى الله عليه وآله) في جميع أقواله وأفعاله... وهذا هو الإسلام بالذات .
نشأ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يتيم الأبوين... مات أبوه وهو حمل. وقيل: كان في المهد، فكفله جدّه عبد المطلب، وماتت أمّه وله من العمر ستّ سنوات، وبقي في كنف جده ثماني سنوات، ولما حضرته الوفاة، أوكل الجدّ أمر حفيده إلى عمّه أبي طالب، ولم يكن أبو طالب أكبر أولاد عبد المطلب، ولا أكثرهم مالاً، وإنما كان أعظم إخوته قدراً، وأكرمهم خلقاً، وأنداهم يداً، فقام أبو طالب برعايته أحسن قيام، وأحبّه حباً شديداً، وآثره على نفسه وأولاده، ونظم في مدحه القصائد الطوال والقصار، وكان يتبرّك به، ويلجأ إليه في الملمّات، لما ظهر على يده من الكرامات. فعن ابن عساكر، أن أهل مكّة قحطوا، فخرج أبو طالب، ومعه محمد، وهو غلام، فاستسقى بوجهه، فأغدقت السّماء واختصبت الأرض، فقال أبو طالب:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل
قال إسماعيل حقّي في «روح البيان»، عند تفسير الآية 54 من سورة يوسف: «لقد آسى أبو طالب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وذبّ عنه مادام حيّاً»، فالأصحّ أنّه ممن أحياه الله للإيمان كما سبق في المجلّد الأوّل .
ما هو السّرّ؟:
وإذا كان أبو طالب يحبّ محمّداً، ويؤثره على نفسه، ويستميت في نصرته، ويثق بصدقه واستقامته، وقد رأى ما رأى من كراماته قبل النبوّة وبعدها، إذا كان ذلك كلّه، فلماذا - يا ترى - لم يؤمن بنبوّته؟ فإن صحّ الزّعم بأن أبا طالب غير مسلم، فينبغي أن يكون هناك سرّ منعه من الإسلام... وما هو هذا السرّ؟.

هل رأى أبو طالب من محمد، وهو يعرف سرّه وحقيقته، هل رأى منه ما يتنافى مع النبوّة؟ حاشا خاتم النبيّين وسيّد المرسلين، ومن ادّعى هذا، فما هو من الإسلام في شيء.. ثم كيف استطاع محمّد (صلى الله عليه وآله) أن يقنع رعاة الإبل بنبوّته، ومن لا يعرف عنه شيئاً من قبل، وعجز عن إقناع عمّه أبي طالب الذي يعرف مصدره ومخبره؟ هل كان أبو طالب أقلّ ذكاءً من أعراب البادية، أو كان في نفسه هوى يمنعه من الإسلام، كما منع أصحاب الأغراض والأهواء؟ .
والهوى الذي يمنع أبا طالب من اعتناق الإسلام - على فرض وجوده - لا يخلو أن يكون واحداً من اثنين: إما الخوف على ماله وثروته، والمفروض أن أبا طالب عاش فقيراً، ومات فقيراً، وإمّا الخوف أن تذهب الرّئاسة من بيت هاشم إلى غيره، والمفروض العكس.. وإذا انتفى هذا وذاك، انتفى المانع من إسلام أبي طالب، وإذا عطفنا انتفاء المانع على وجود المقتضي لإسلامه، وهو حبّه لمحمد وعلمه بحقيقته، كانت النتيجة أن أبا طالب من السابقين إلى الإسلام، لا من المسلمين فحسب .
وإذا بطل القول بأنّ الآيتين نزلتا في أبي طالب، ولم تثبت صحّة الرّواية بأنهما نزلتا في أمّ النبي (صلى الله عليه وآله)، تعيّن القول الأول، أي أنهما نزلتا في قوم من المؤمنين كانوا يستغفرون أو يحاولون الاستغفار لموتاهم المشركين. وظاهر الآيتين صريح في ذلك.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة