مقالات

الحسين يقوم بدمه

 

الشيخ حسين المصطفى
في قيامة الحسين بن علي نسمع شهود إعلانه بكل جوانحه، وهو يقول: "خُطَّ الْمَوْتُ عَلى وُلْدِ آدَمَ مَخَطَّ الْقَلادَهِ عَلى جیدِ الْفَتاهِ، وَما أَوْلَهَني إِلى أَسْلافي اِشْتِیاقُ یَعْقُوبَ إِلى یُوسُفَ، وَخُیِّرَ لِي مَصْرَعٌ أَنَا لاقیهِ. کَأَنِّي بِأَوْصالي تَقْطَعُها عَسْلانُ الْفَلَواتِ بَیْنَ النَّواویسِ وَکَرْبَلاءَ، فَیَمْلأَنَّ مِنِّي أَکْراشاً جَوْفاً وَاَجْرِبَهً سَغْباً، لا مَحیصَ عَنْ یَوْم خُطَّ بِالْقَلَمِ، رِضَى اللهِ رِضانا أَهْلَ الْبَیْتِ، نَصْبِرُ عَلى بَلائِهِ وَیُوَفّینا أَجْرَ الصّابِرینَ. لَنْ تَشُذَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ (ص) لَحْمَتُهُ، وَ هِيَ مَجْمُوعَهٌ لَهُ في حَظیرَةِ الْقُدْسِ، تَقَرُّ بِهِمْ عَیْنُهُ وَیُنْجَزُ بِهِمْ وَعْدُهُ. مَنْ کانَ باذِلاً فینا مُهْجَتَهُ، وَمُوَطِّناً عَلى لِقاءِ اللهِ نَفْسَهُ فَلْیَرْحَلْ مَعَنا فَإِنَّنِي راحِلٌ مُصْبِحاً إِنْ شاءَ اللهُ تَعالى".
إنها منارة عشق ترفرف معها عمق آلام عيسى المسيح، بل عمق آلام الأنبياء كلهم، وتضوعت معها عبق المشرق بكل تاريخه التليد وتجلياته العتيقة، ولتبتهج كلُّ نفوس العالم بنهضة العقل والقلب؛ لأنَّ الحسين بن علي قرأ كتاب الكون المفتوح المتصل بالله، في كلِّ ذرة حبٍّ متصل يباركه الرب.. وفي كلِّ حبة رمل، ونسمة هواء، وثمرة شجر.
كذلك قرأ (ع) كتاب النفس الإنسانية؛ عبر تاريخه الطويل، في كل نزعة خير، ونزوة شر، وعاطفة يسمو بها نحو الجمال والجلال، نحو الحرية والانعتاق، أو تهوي به نحو الضياع والشقاء.
إنها تؤكد حقيقة الحسين (ع)، وتؤكد حقيقة السير للشهادة، وأنها ابتعاث لقيامة الدين من جديد؛ وكأنَّ نور الحسين -من كربلاء- ينتشر على البسيطة بكامل أرجائها، إيذاناً بأنَّ الإنسان لم يُخلق للموت والخنوع، بل خُلق للحياة والتطور، وبأنَّ الله الخالق إله أحياء لا إله أموات.


وما زالت قيامة الحسين (ع) تصرخ مدوية في عالمنا..
وما زالت تبشر بفجر جديد تتلوه حياة جديدة، وزمن غابر يُولَد مكانه زمن جديد وتاريخ جديد. فكلُّ شيء قد أصبح جديداً في الحسين أولاً، وفي سائر المؤمنين به ثانياً؛ لأننا لم نُخلق للماضي بل خُلقنا للحاضر والمستقبل.
نعم، خلقنا الله للحياة والتمكين {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ}؛ فالإنسان هو مخلوق إلهي، ولم يكن مجيئه إلى الأرض عَرَضاً، بل كان طبق خطة إلهية مرسومة، وقد أعدّ لتحقيق تلك الوظيفة، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا}.
فيوم شهادة الحسين (ع) هو يوم قيامة وتمكين من طراز خاص، بل هو يوم ميلاده الحقيقي الذي ادَّخره الله للحسين.. وهو في الحقيقة عيد حياتك -أيها الإنسان- لتَحياه بكرامة وعزة.. ولكي يعيش الإنسان سعادة لا ذلَّ فيها لا بدَّ أن يرفض حياة الظلم والعبودية للظالم، "إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً". إنَّ الموت بعز سعادة حقيقية، والحياة مع ذل هو موت حقيقي.
لقد انعجن الحسين (ع) حتى أضحى رمزاً نقيم معه قدَّاسنا؛ في صلاة نعرج فيها لله فتقوم قيامتنا معه، ونرتبط في حال سجودنا بأثرٍ من تراب فدائه من أجل أن تكون لنا معه عبادة فيها عزة وكرامة، فنُحشر أحياء عقيب كل صلاة.
إنَّ يوم عاشوراء نرى فيه عيد الأعياد وموسم المواسم؛ لأنها تحمل معها بشارة كلِّ نبي، وشرف كل مصلح، وخيرة كل عادل.


فهل هي بشارة أو نذير؟!! فيهبط الملاك على رسول الله (ص)، وكان ذلك في حجرة أم سلمة، فيقول لها (ص): "يا أم سلمة، احفظي علينا الباب لا يدخل أحد". فبينا هي على الباب إذ دخل الحسين بن علي طفر، فاقتحم فدخل فوثب على رسول الله (ص)، فجعل رسول الله (ص) يلثمه ويقبله، فقال له الملك: أتحبه؟! قال: "نعم"، قال: إنَّ أمتك ستقتله، وإن شئت أريك المكان الذى يُقتل به، فأراه فجاء بسهلة أو تراب أحمر، فأخذته أم سلمة فجعلته في ثوبها.
وها هو حفيد الحسين، جعفر بن محمد الصادق يؤسس لهذه التربة معراجاً من نوع آخر "فلا يسجد إلا على تربة الحسين (ع)؛ تذللاً لله واستكانة له".
أليس الحسين قد قتل من أجل أن نمجِّد الله، كما مجَّده الحسين (ع)؟ مجد لا يليق إلا بمعراج الحسين إلى الله. فمَن كان حَسَن العبادة مع الله، فليأت مع الحسين، فقد ذبح من أجل أن نتألق في تمجيدنا وشكرنا لله.
لقد سُئِل (ع) ذات مرة: كيف أصبحت يابن رسول الله؟
فقال (ع): "أصبحت ولي ربٌ فوقي والنار أمامي، والموت يطلبني، والحساب محدق بي، وأنا مرتهنٌ بعملي، ولا أجد ما أحب، ولا أدفع ما أكره، والأمور بيد غيري، فإن شاء عذبني، وإن شاء عفا عني، فأي فقير أفقر مني؟!".
هل أصبحنا، نفكر بهذه الطريقة؟! وهل نستطيع أن نمجد في صباحنا ربنا سبحانه لنحبّه ونطيعه ونتفانى في حبِّ خلقه؟! وهل نتذكر الموت والحساب وملكوت الله لنعرف موقعنا في لقاء الله؟!
إنَّ قيامة الحسين عبورٌ من الموت إلى الحياة.
وهذا العبور نصر للحياة على الموت.
فالحسين الناهض هو باعث بهجتنا وسرورنا.
لقد استطاع أن يحوّل ما حوله إلى وجود جديد.
وقام الإمام الحسين (ع) من مكمنه ليمنحنا حياة جديدة ورحمة عظمى.


نعم، كانت ولادة جديدة لوعي الإنساني، ولعقله الإنساني تلك التي حدثت بعد إراقة دمه.. أما المخاض، فهو مخاض الوعي الذي سيستمر عبر القرون، وسيعاني المخاض بكثير من أولئك الذين يجدون في الحسين شعار طقوس خالية من الوعي والفكر الانبعاثي، وما زلنا إلى اليوم بحاجة ماسة إلى قراءة جديدة للحسين (ع).
إنَّ خطاب الحسين (ع) قد انكفأ في ظل التلقين التقليدي، وابتعد عن كونه حواراً بين الأجيال، وبين الواقع (الحاضر والمستقبل)، وصار قراءة تحاول قسر الماضي على الحاضر، ولو بالقوة وتفرض فهم الماضين مما أدى إلى تحجير الوعي واغتيال روح الإبداع والصحوة وقتل الأمل، مما جعل قيم ومفاهيم عصر الانحطاط تعتبر بديهيات ومسلمات لا غنى عنها.. هذا القصور انعكس على العلاقات الاجتماعية وعلى التاريخ وعلى المستقبل، بل على سير الإسلام نفسه.
حقاً لقد قام الحسين، فأقام بقيامته معنى الصلاة، ليذكرنا بحقيقة عبوديتنا لله، وليختم قيامته (ع) بهذا الدعاء: "اَللّـهُمَّ اَنْتَ مُتَعالِي الْمَكانِ، عَظيمُ الْجَبَرُوتِ، شَديدُ الِمحالِ، غَنِيٌّ َعنِ الْخَلايِقِ، عَريضُ الْكِبْرِياءِ، قادِرٌ عَلى ما تَشاءُ، قَريبُ الرَّحْمَةِ، صادِقُ الْوَعْدِ، سابِغُ النِّعْمَةِ، حَسَنُ الْبَلاءِ، قَريبٌ إذا دُعيتَ، مُحيطٌ بِما خَلَقْتَ، قابِلُ التُّوبَةِ لَمَنْ تابَ اِلَيْكَ، قادِرٌ عَلى ما أرَدْتَ، وَمُدْرِكُ ما طَلَبْتَ، وَشَكُورٌ إذا شُكِرْتَ، وَذَكُورٌ إذا ذُكِرْتَ، أدْعُوكَ مُحْتاجاً، وَأرْغَبُ إلَيْكَ فَقيراً، وَأفْزَعُ إلَيْكَ خائِفاً، وأبْكي إلَيْكَ مَكْرُوباً، وَأسْتَعينُ بِكَ ضَعيفاً، وَأتوَكَّلُ عَلَيْكَ كافِياً، اُحْكُمْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا فَإنَّهُمْ غَرُّونا وَخَدَعُونا وَغَدَروا بِنا وَقَتَلُونا، ونَحْنُ عِتْرَةُ نَبِيِّكَ، وَوَلَدُ حَبيبِكَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِاللهِ، الَّذي اصطَفَيْتَهُ بِالرِّسالَةِ، وَائْتَمَنْتَهُ عَلى وَحْيِكَ، فَاجْعَلْ لَنا مِنْ أمْرِنا فَرَجاً وَمَخْرجاً بِرَحْمَتِكَ يا أرْحَمَ الرّاحِمينَ".

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة