مقالات

الأسلوب والعبقرية الخطابية عند الإمام عليّ عليه السّلام (2)

جورج جرداق

 

وعلي يعلم أنّ من العرب من لا يبذل نفسه إلا للحفاظ على سمعة أمرأةٍ وعلى شرف فتاة، فإذا هو يعنّف هؤلاء القوم على القعود دون نصرة المرأة التي استباح الغزاة حماها ثم انصرفوا آمنين، وما نالت رجلاً منهم طعنةٌ ولا اريق لهم دم!

ثم إنّه أبدى ما في نفسه من دهشٍ وحيرةٍ من أمرٍ غريب: فإنّ أعداءه يتمسكون بالباطل فيناصرونه، ويدينون بالشرّ فيغزون الأنبار في سبيله، فيما يقعد أنصاره حتى عن مناصرة الحقّ، فيخذلونه ويفشلون عنه.

ومن الطبيعيّ أن يغضب الإمام في مثل هذا الموقف، فإذا بعبارته تحمل كلّ ما في نفسه من الغضب، فتأتي حارّةً شديدةً مسجعةً مقطعةً ناقمة: "فقبحاً لكم وترحاً حين صرتم غرضاً يرمى: يغارعليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون ويعصى الله وترضون!".

وقد تثور عاطفته وتتقطع، فإذا بعضها يزحم بعضاً على مثل هذه الكلمات المتقطعة المتلاحقة: "ما ضعفت، ولا جبنت، ولا خنت، ولا وهنت!".

وقد تصطلي هذه العاطفة بألمٍ ثائرٍ يأتيه من قومٍ أراد لهم الخير وما أرادوه لأنفسهم لغفلةٍ في مداركهم ووهنٍ في عزائمهم. فيخطبهم بهذا القول الثائر الغاضب، قائلاً: "مالي أراكم أيقاضاً نوما، وشهوداً غيبا، وسامعةً صماء، وناطقةً بكماء الخ...؟".

 

والخطباء في العرب كثيرون، فالخطابة من فنونهم الأدبية التي عرفوها في الجاهلية والإسلام ولا سيّما في عصر النبي والخلفاء الراشدين؛ لما كان لهم بها من حاجة. أمّا خطيب العهد النبوي الأكبر فالنبيّ لا خلاف في ذلك. أمّا في العهد الراشدي، وفي ما تلاه من العصور العربية قاطبة، فإنّ أحداً لم يبلغ ما بلغ إليه عليّ بن أبي طالب في هذا النحو. فالنطق السهل لدى عليّ كان من عناصر شخصيّته، وكذلك البيان القويّ بما فيه من عناصر الطبع والصناعة جميعاً، ثم إن الله يسرّ له العدّة الكاملة لما تقتضيه الخطابة من مقوّمات أخرى على ما مرّ بنا. فقد ميّزه الله بالفطرة السليمة، والذوق الرفيع، والبلاغة الآسرة، ثمّ بذخيرةٍ من العلم انفرد بها عن أقرانه، وبحجةٍ قائمة، وقوّة إقناع دامغة، وعبقريةٍ في الارتجال نادرة. أضف إلى ذلك صدقه الذي لا حدود له، وهوة ضرورةٌ في كلّ خطبةٍ ناجحة، وتجاربه الكثيرة المرّة التي كشفت لعقله الجبّار عن طبائع الناس وأخلاقهم وصفات المجتمع ومحرّكاته. ثم تلك العقيدة الصلبة التي تصعب مداراتها، وذلك الألم العميق الممزوج بالحنان العميق، وبطهارة القلب وسلامة الوجدان وشرف الغاية.

 

وإنّه لمن الصعب أن تجد في شخصيات التاريخ من اجتمعت لديه كل هذه الشروط التي تجعل من صاحبها خطيباً فذاً، غير عليّ بن أبي طالب، ونفرٍ من الخلق قليل، وما عليك إلا استعراض هذه الشروط، ثمّ استعراض مشاهير الخطباء في العالمين الشرقي والغربي، لكي تدرك أن قولنا هذا صحيح لا غلوّ فيه.

وابن أبي طالب على المنبر رابط الجأش، شديد الثقة بنفسه وبعدل القول، ثمّ إنّه قويّ الفراسة سريع الإدراك، يقف على دخائل الناس وأهواء النفوس وأعماق القلوب، زاخرٌ جنانه بعواطف الحريّة والإنسانية والفضيلة، حتّى إذا انطلق لسانه الساحر بما يجيش به قلبه ادرك القوم بما يحرّك فيهم الفضائل الراقدة والعواطف الحامدة.

 

أمّا إنشاؤه الخطابي فلا يجوز وصفه إلا بأنّه أساسٌ في البلاغة العربية.

يقول أبو هلال العسكري صاحب "الصناعتين": ليس الشأن في إيراد المعاني ـ وحدها ـ وإنّما هو في جودة اللفظ، أيضاً، وصفائه وحسنه وبهائه ونزاهته ونقائه، وكثرة طلاوته ومائه، مع صحّة السبك والتركيب والخلوّ من أود النظم والتأليف.

من الألفاظ ما هو فخمٌ كأنّه يجرّ ذيول الأرجوان أنفةً وتيها. ومنها ما هو ذو قعقعةٍ كالجنود الزاحفة في الصفيح. ومنها ما هو كالسيف ذي الحدّين. ومنها ما هو كالنقاب الصفيق يلقى على بعض العواطف ليستر من حدّتها، ويخفّف من شدّتها. ومنها ماله ابتسامة السماء في ليالي الشتاء، فمن الكلام ما يفعل كالمقرعة وهو كلام الانتقاد والتنديد. ومنه ما يجري كالنبع الصافي وهو المعدّ للرضى والغفران. ومنه ما يضيء كالشهاب وهو كلام التعظيم. كذلك من الكلام ما ليس له طابع خاصّ، فيؤتى به لتقوية الجملة ودعم المعنى، فهو يلائم كلّ حال.

 

كلّ ذلك ينطبق على خطب عليّ في مفرداتها وتعابيرها. هذا بالإضافة إلى أنّ الخطبة تحسن إذا انطبعت بهذه الصفات اللفظية على رأي صاحب الصناعتين، فكيف بها إذا كانت كخطب ابن أبي طالب تجمع روعة هذه الصفات في اللفظ إلى روعة المعنى وقوّته وجلاله؟

وإليك ما جاء في فصلٍ سابقٍ لنا من هذا الكتاب تحت عنوان "الضمير العملاق" بصدد بيان الإمام علي، لا سيّما ما كان منه في خطبه:

نهجٌ للبلاغة أخذٌ من الفكر والخيال والعاطفة آياتٍ تتصل بالذوق الفنّي الرفيع ما بقي الإنسان، وما بقي له خيالٌ وعاطفةٌ وفكر، مترابطٌ بآياته متساوق، متفجّر بالحسّ المشبوب والإدراك البعيد، متدفقٌ بلوعة الواقع وحرارة الحقيقة والشوق إلى معرفة ما وراء هذا الواقع، متآلفٌ يجمع بين جمال الموضوع وجمال الإخراج، حتّى ليندمج التعبير بالمدلول، أو الشكلُ بالمعنى، اندماج الحرارة بالنار والضوء بالشمس والهواء بالهواء. فما أنت إزاءه إلاّ ما يكون المرء قبالة السيل إذ ينحدر، والبحر إذ يتموج والريح إذ تطوف، أو قبالة الحدث الطبيعي الذي لا بدّ له أن يكون بالضرورة على ما هو كائنٌ عليه من الوحدة، لا تفرّق بين عناصرها إلاّ لتمحو وجودها وتجعلها إلى غير كون!

 

بيانٌ لو نطق بالتقريع لانقضّ على لسان العاصفة انقضاضاً! ولو هدّد للفساد والمفسدين لتفجر براكين لها أضواءٌ وأصوات! ولو انبسط في منطقٍ لخاطب العقول والمشاعر فأقفل كلّ بابٍ على كل حجةٍ غير ما ينبسط فيه! ولو دعا إلى تأملٍ لرافق فيك منشأ الحس وأصل التفكير، فساقك إلى ما يريده شوقاً، ووصلك بالكون وصلاً، ووحد فيك القوى للاكتشاف توحيداً. وهو لو راعاك لأدركت حنان الأب ومنطق الأبوة وصدق الوفاء الإنساني حرارة المحبّة التي تبدأ ولا تنتهي. أمّا إذا تحدث إليك عن بهاء الوجود وجمالات الخلق وكمالات الكون، فإنّما يكتب على قلبك بمدادٍ من نجوم السماء.

 

بيانٌ هو بلاغةٌ من البلاغة، وتنزيلٌ من التنزيل. بيان اتّصل بأسباب البيان العربي ما كان منه وما يكون، حتّى قال أحدهم في صاحبه: إن كلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق.

وخطب عليّ جميعاً تنضح بدلائل الشخصية، حتّى لكأنّ معانيها وتعابيرها هي خوالج نفسه بالذات، وأحداث زمانه التي تشتعل في قلبه كما تشتعل النار في موقدها تحت نفخ الشمال. فإذا هو يرتجل الخطبة حسّاً دافقاً وشعوراً زاخراً، وإخراجاً بالغاً غاية الجمال.

وكذلك كانت كلمات عليّ بن أبي طالب المرتجلة، فهي أقوى ما يمكن للكلمة المرتجلة أن تكون من حيث الصدق، وعمق الفكرة، وفنّية التعبير، حتى إنّها ما نطقت بها شفتاه إلا ذهبت مثلاً سائراً.

فمن روائعه المرتجلة قوله لرجلٍ أفرط في مدحه بلسانه وأفرط في اتّهامه بنفسه: "أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك".

ومن ذلك أنّه لـمّا اعتزم أن يقوم وحده لمهمةٍ جليلةٍ تردّد فيها أنصاره وتخاذلوا، جاءه هؤلاء وقالوا له، وهم يشيرون إلى أعدائه: يا أمير المؤمنين! نحن نكفيكهم. فقال من فوره: "ما تكفونني أنفسكم كيف تكفونني غيركم؟ إن كانت الرعايا قبلي لتشكو حيف رعاتها، فإنني اليوم لأشكو حيف رعيّتي، كأنّني المقود وهم القادة".

ولـمّا قتل أصحاب معاوية محمد بن أبي بكر فبلغه خبر مقتله قال: "إن حزننا عليه قدر سرورهم به، ألا إنّهم نقصوا بغيضاً ونقصنا حبيباً".

وسئل: أيّهما أفضل: العدل أم الجود ؟ فقال: "العدل يضع الأمور مواضعها، والجود يخرجها من جهتها، والعدل سائس عامّ، والجود عارضٌ خاصّ، فالعدل أشرفهما وأفضلهما".

 

وقال في صفة المؤمن، مرتجلاً:

"المؤمن بشره في وجهه، وخزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً، وأذلّ شيء نفساً. يكره الرفعة، ويشنأ السمعة، طويلٌ غمّه، بعيدٌ همّه، كثيرٌ صمته، مشغولٌ وقته، شكور صبور، سهل الخليقة، ليّن العريكة".  

وسأله جاهل متعنّتٌ عن معضلة، فأجابه على الفور: "اسأل تفقهاً ولا تسأل تعنّتاً، فإنّ الجاهل المتعلم شبيهٌ بالعالم، وإنّ العالم المتعسف شبيهٌ بالجاهل المتعنّف".

الخلاصة أنّ عليّ بن أبي طالب أديبٌ عظيمٌ، نشأ على التمرّس بالحياة، وعلى المرانة بأساليب البلاغة فإذا هو مالك ما يقتضيه الفنّ من أصالةٍ في شخصية الأديب، ومن ثقافة تنمو بها الشخصية وتتركز الأصالة.

 

أمّا اللغة ، لغتنا العربية الحبيبة التي قال فيها مرشلوس في المجلّد الأوّل من كتابه "رحلة إلى الشرق" هذا القول الذكيّ: "اللغة العربية هي الأفصح والأكثر والألطف وقعاً بين سائر لغات الأرض. بتراكيب أفعالها تتبع طيران الفكر وتصوّره بدقّة، وبأنغام مقاطعها الصوتية تقلّد صراخ الحيوانات، ورقرقة المياه الهاربة، وعجيج الرياح وقصف الرعد"، أما هذه اللغة، بما ذكر مرشلوس من صفاتها وبما لم يذكر، فإنّك واجدٌ أصولها وفروعها، وجمال ألوانها وسحر بيانها، في أدب الإمام عليّ.

وكان أدباً في خدمة الإنسان والحضارة.

 

(كتاب الإمام علي صوت العدالة الإنسانية)

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد