من التاريخ

القرآنيّون تاريخهم نشأتهم وآراؤهم (4)

 

حيدر حب الله ..

المبرّر الثاني: عدم وجود دليل قرآني على حجيّة السنّة

ناقش القرآنيّون مجمل الأدلّة التي أقيمت على حجيّة السنّة الشريفة، ومن باب الإجمال نشير إلى بعضها:

الآية الأولى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (المائدة: 59).

فقد شكّكوا في دلالة آية الإطاعة على حجيّة السنّة، ونصّوا على أنّ إطاعة الرسول التي أشارت إليها الآية الكريمة إنّما تختصّ بالرسول بما هو حاكم أو بما هو مخبر عن الأوامر القرآنية أو آمرٌ بها، وليس بنحو الاستقلال عن القرآن الكريم، ولا تعني أنّ إطاعته تقع في عرض طاعة الله؛ بل إنّ طاعته استمرار لطاعة الله، وطاعة الله هي طاعة القرآن الكريم فقط.

لكنّ المؤسف أنّهم لم يبيّنوا السبب في تخصيص هذا الإطلاق، أي كيف خصّصوا إطلاق الآية التي أفادتها القاعدة؟ فإنّ التركيبة اللغويّة لعبارة: أطيعوا الله، هي نفسها في عبارة أطيعوا الرسول، فكما أنّ الأولى غير مقيّدة بخصوصيّة كونه حاكماً، فكذا الثانية أيضاً، ولابدّ من إبراز وجه فنّي علميّ لغويّ لهذا التخصيص، وهذا ما لم نلاحظه في كلماتهم بشكل جادّ.

الآية الثانية: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 4).

ناقش القرآنيون في هذه الآية الكريمة أيضاً، وهي من الآيات الأساسيّة لإثبات حجيّة السنّة النبويّة، وقالوا: إنّها غير دالّة على المطلوب؛ لكونها بصدد محاججة المشركين، بدليل الآيتين اللتين قبلها في نفس السورة، قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (النجم: 1 ـ 3)، فهي إشارة واضحة إلى كون النقاش مع المشركين، وهي آيات نزلت عقب حادثة الإسراء في مكّة المكرّمة.

كما أنّ كلمة: (إن هو..) تحتمل أن تكون دالّةً على عموم ما ينطق به النبيّ الأكرم، وتحتمل أن تكون دالّةً على خصوص القرآن الكريم، والاحتمال الثاني هو الأنسب بالآية الشريفة؛ وذلك لأنّ المشكلة التي عانى المشركون منها هي القرآن الكريم، ولم يتناقش المشركون مع النبي في حجيّة سنّته، ولم تكن هي المعركة بين الإسلام والشرك في تلك الفترة الزمنيّة، وإنّما كانت في حجيّة كتابه ودعواه للنبوّة، فالقدر المتيقّن من هذه الآية هو القرآن الكريم، ولا يمكن تعميمه لأكثر من ذلك.

الآية الثالثة: {.. وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الحشر: 7).

لقد التفت القرآنيّون هنا إلى نقطة مهمّة في النقاش حول دلالة هذه الآية على حجيّة السنّة؛ حيث اتهموا خصومهم ببتر الآية عن سياقها؛ إذ سياقها يتحدّث عن الغنائم والفيء، وأنّ ما آتاكم الرسول من غنائم وفيء عليكم عدم الاعتراض على ما يعطيكم وما لا يعطيكم، كي لا يكون دولةً بين الأغنياء منكم، وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا، فما قال لكم خذوه من هذا المال فخذوه، وما قال لكم: إنّه ممنوعٌ عليكم، فلا تأخذوه، بل انتهوا عنه وكفّوا أيديكم.

لكنّ الأصوليين ـ ورغم التفاتهم إلى الاختصاص بالغنائم بقرينة السياق ـ اعتبروا الآية مشيرةً إلى قاعدة عامّة، وهي تشبه القاعدة التي طرحها الإمام عليه السلام في رواية الاستصحاب، فهي وإن جاء سياقها في خصوص الوضوء أو الطهارة، إلا أنّها تدلّ على قاعدة عامّة ينبغي البناء عليها في عموم الشكوك المسبوقة بيقين، على تفصيلٍ مذكور في محلّه.

هذه عيّنات من مناقشات القرآنيين وغيرهم على الاستدلال بنصوص القرآن الكريم على حجيّة السنّة الشريفة، نكتفي بها؛ لعدم وجود الوقت الكافي للتفصيل فيها.

 

المبرّر الثالث: أدلّة القرآنيّين على عدم حجيّة السنّة

لم يكتف القرآنيون بمناقشة أدلّة حجيّة السنّة الشريفة، بل ساقوا أيضاً أدلّةً عدّة على عدم حجيّة السنّة:

ومن أمثلة هذه الأدلّة وأهمّها مسألة تدوين السنّة، حيث قالوا بأنّ السنّة لو كانت حجّةً لدوّنها الرسول أو أمر بتدوينها، وحيث إنّها لم تدوّن ولم يأمر بتدوينها، فهذا يعني عدم حجّيتها.

وقد تعرّض هذا الاستدلال لمناقشات منها أنّ المستدلّين لم يأخذوا بعين الاعتبار قدرة العرب على تدوين القرآن وعدم قدرتهم على تدوين السنّة لكثرتها الواسعة.

ومنها: إنّ صريح القرآن الكريم ينفي حجيّة السنّة؛ وذلك حينما يعبّر القرآن الكريم عن نفسه بكونه تبياناً لكلّ شيء دون أن يقول: إنّ شريكي في هذه المهمّة هي السنّة، فهذا يعني عدم حجّيتها، والحجيّة للقرآن وحده فقط.

وقد أجاب بعض العلماء عن ذلك بأنّ فهم (كلّ شيء) ليس بمقدور الجميع، بل هو بمقدور فئة خاصّة هي النبي وأهل بيته الكرام عليهم السلام، وأمّا الذي نفهمه فهو جزء من هذا الشيء الموجود في الكتاب العزيز.

ومنها: إنّ الله تعهّد بحفظ القرآن دون أن يتعهّد بحفظ السنّة، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9).

وأجيب عنه ـ من جملة ما أجيب ـ بأنّ هذا الدليل أعمّ من المدّعى؛ فإنّ الله لم يتعهّد لا بحفظ التوراة ولا بحفظ الإنجيل، بل ذهب بعضهم إلى أنّ الإنجيل لم يُكتف بتحريفه وتزويره بل اختفى تماماً، وعلى الناس أن تتحمّل مسؤوليّة حفظه، والأمر كذلك في السنّة النبويّة أيضاً، فكما لم يضرّ عدم تعهّد الله بحفظ التوراة والإنجيل كذلك الحال هنا في السنّة.

 

ومجمل القول: إن المنطلقات التي دعت القرآنيّين لطرح توجّهاتهم، ثلاثة:

المنطلق الأول: تشديد الضربات ضدّ الحديث، واعتباره مشكوكاً في أمره مهما كثرت الطرق والمصادر، حتى بالغوا في هذا الموضوع.

المنطلق الثاني: التشكيك في الأدلّة التي تثبت حجيّة السنّة الشريفة، والتي أشرنا إلي قسم منها في ما تقدّم.

المنطلق الثالث: إقامة مجموعة من الأدلّة على عدم حجيّة السنّة، مثل مسألة عدم التدوين.

هذا، والبحث طويل جدّاً في النقاش معهم، وقد تعرّضتُ شخصيّاً لمختلف الأدلّة التي اُقيمت على حجيّة السنّة من قبل أنصار السنّة الشريفة والمناقشات التي سجّلت أو يمكن أن تسجّل على بعض هذه الأدلّة على الأقلّ، وكذلك الأدلّة التي أقامها القرآنيون وغيرهم على عدم حجيّة السنّة، وذلك في كتابي (حجية السنّة)([2])، فليراجع.

 

أصول الاجتهاد عند القرآنيّين

ليس للقرآنيّين طريقة خاصّة في الاجتهاد الدينيّ، عدا أنّها تكمن في جماع ثلاثة أصول:

الأصل الأوّل: عدم الرجوع إلى الحديث الشريف، فلا قيمة لكلّ هذا التراث الحديثي الهائل.

الأصل الثاني: مرجعيّة اللغة في فهم القرآن، فقد هاجم القرآنيّون أسباب النزول؛ لانّها تقيّد ـ من وجهة نظرهم ـ دلالة القرآن الكريم، وهاجموا كذلك الحديث الشريف للسبب نفسه، ومن ثمّ قالوا: لا طريق لفهم القرآن إلا اللغة العربيّة، وبذلك أنكروا وجود أيّ دور للطُرق والعلوم الأخرى، ولعلّ هذا ما يلفت نظرنا لبعض النتائج المستغربة بعض الشيء عندهم؛ لكونها معتمدة بشكل حادّ على الجذر الّلغويّ، كما في موضوع الطواف وفق ما أسلفنا بيانه؛ فحينما أنكروا حجيّة السنّة رجعوا إلى حاقّ اللغة ليُثبتوا أنّ الطواف هو التردّد على الشيء وليس الدوران حوله.

الأصل الثالث: ولدى جماعة كبيرة من القرآنيّين أصل ثالث بالغ الأهميّة، ويتلخّص في استخراج مجموعة من القواعد، ثم الذهاب إلى المصاديق الخارجيّة المستحدثة لعرضها على هذه القواعد القرآنيّة؛ فإن ناقضت واحدةً منها حكم بعدم إباحتها، وإن لم تناقض أيّاً منها حكم بإباحتها، لا أن نرجع إلى الروايات التي تتحدّث عن الكلب العقور والمثلة فيه لنستكشف دلالتها على حكم التشريح مثلاً! بل علينا الاكتفاء بالتأصيلات القرآنيّة حينما ننظر للوقائع الخارجيّة؛ فإن كانت الوقائع تتعارض مع تلك التأصيلات فيحكم بحرمتها، وإلا فهي جائزة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة