قرآنيات

فهم القرآن ظاهراً وباطناً


السيد حسين البروجردي

اعلم أنّ العلم التفصيلي بهذا الباب (باب فهم القرآن الكريم) لا يحصل إلّا لمن آتاه الله علم الكتاب وفصل الخطاب، وميّز القشر من اللَّباب، وكان واقفاً مقيماً في الكون الكبير على باب الأبواب، لإطلاعه على حقائق الملك والملكوت، وإفاضته على سرادق سلطان الجبروت، ودوام فقره وعبوديته وانقطاعه إلى الحّي الذي لا يموت، كي يطَّلع بعد ذلك بما هنالك من أسرار التشريع والتكوين، وينطبق عنده إشارات التدوين.
وأمّا نحن ومن هو في درجتنا فإنّما آمنّا بذلك من جهة الإيمان بالغيب الذي هو من مراتب الإيمان ودرجات التقوى، وذلك لِما تقرّر عندنا من مساوقة التدوين للتكوين بعد ما استفاضت به الأخبار من أنّ نبيّنا صلَّى الله عليه وآله قد أشهده الله خلق خلقه، وولَّاه ما شاء من أمره، وأنّه صلَّى الله عليه وآله، وأهل بيته يعلمون جميع ما في السّماوات والأرض وما فيهنّ وما بينهنّ وما فوقهنّ وما تحتهنّ، كلّ ذلك علم إحاطة، كما ورد في بعض الأخبار ويشهد له الاعتبار، أو علم إخبار كما هو القدر المعلوم من الشريعة.
هذا مضافاً إلى الآيات والأخبار الدالَّة على اشتمال القرآن على كلّ شيء من التكوينات والتشريعات، كقوله: ﴿..ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ..﴾ الأنعام:38، وقوله: ﴿..وكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناه فِي إِمامٍ مُبِينٍ﴾ يس:12، بناء على إرادة الكتاب منه، وقوله: ﴿وما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ والأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ﴾ النمل:75، وقوله: ﴿..ونَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ..﴾ النحل:89، إلى غير ذلك من الآيات الظاهرة بنفسها لعمومها في ذلك، سيّما بعد ورود البيان والتفسير لها في الأخبار.

تبيان لكلّ شيء
فروى العيّاشي في تفسيره عن مولانا الصادق عليه السّلام قال: «نحن واللهِ نعلم ما في السّماوات، وما في الأرض، وما في الجنة، وما في النار، وما بين ذلك»، ثمّ قال: «إنّ ذلك في كتاب الله»، ثمّ تلا هذه الآية: ﴿ونَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وهُدىً ورَحْمَةً وبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ﴾».
وفي الكافي عنه عليه السّلام: «إنّ اللهَ أنزل في القرآن تبيانَ كلّ شيء حتى واللهِ ما ترك شيئاً يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبدٌ أن يقول: لو كان هذا أُنزل في القرآن، إلَّا وقد أنزله اللهُ فيه».
وفيه عنه عليه السّلام: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلَّا وله أصلٌ في كتاب الله، ولكن لا تبلغه عقول الرّجال».
وعن أبي جعفر عليه السّلام: «إنّ الله لم يدَع شيئاً تحتاج إليه الأمّة إلَّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله، وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّاً».
وفي (تفسير القمّي) وغيره عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في خبر طويل، وفيه: «فجاءهم النبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم بنسخة ما في الصحف الأولى، وتصديق الذي بين يديه، وتفصيل الحلال من ريب الحرام، وهو ذلك القرآن، فاستنطقوه ولن ينطق لكم، أُخبركم عنه أنّ فيه علم ما مضى، وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحُكم ما بينكم، وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتموني عنه لأخبرتكم عنه لأنّي أعلمكم..».
وفي (الخرائج) عن عبد الله بن الوليد السمّان قال: قال الباقر عليه السّلام: «يا عبد الله ما تقول في عليّ وموسى وعيسى؟
قلت: ما عسى أن أقول، قال عليه السّلام: هو والله أعلم منهما، ثمّ قال: ألستم تقولون: إنّ لعليّ ما لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم من العلم؟ قلنا: نعم، والنّاس ينكرون.
قال عليه السّلام: فخاصِمْهم فيه بقوله تعالى لموسى: ﴿وكَتَبْنا لَه فِي الأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ..﴾ الأعراف:145، فعلمنا أنّه لم يكتب له الشيء كلَّه. وقال لعيسى: ﴿..ولأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيه..﴾ الزخرف:63، فعلِمنا أنه لم يبيّن له الأمر كلّه. وقال لمحمّد صلَّى الله عليه وآله وسلّم : ﴿..وجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ ونَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ..﴾ النحل:89».
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة، وهي كما ترى ما بين ظاهرة وصريحة في ذلك، والعموم في بعضها كالمشتملة على ما تحتاج إليه الأمّة، وإنْ كان من جهة الأحكام الشرعية، والأمور التعبدية، إلَّا أنّه لا منافاة فيها لما يدلّ عليه غيرها ظهوراً أو صراحة من الشمول للحوادث، والكينونات الدنيوية، والأخروية، ولذا صرّحوا عليهم السّلام بأنّ فيه علم ما في السماوات وما في الأرض، وما في الجنة، وما في النار إلى غير ذلك ممّا يؤيّد به الآيات المتقدّمة.

في الشّبهة والردّ عليها
وتوهّمُ أنّه مشتمل على آيات وألفاظ معدودة متناهية دالَّة بوجوه الدلالات العرفية المنحصرة في الثلاث [المطابقة والتضمن والالتزام] فكيف يكون المدلول بها تلك المعاني الكثيرة المشتملة على جميع ما مضى وما يأتي إلى يوم القيامة، بل وبعد القيامة من الأحوال، والأطوار، والأفعال الكثيرة المتجدّدة غير المتناهية الدائمة بدوامه سبحانه، [هذا التوهّم] مدفوعٌ بأنّ قلّة الألفاظ وتناهيها لا تمنع من كثرة المعاني ولاتناهيها إذا كانت هناك سعة من جهة الدلالة، ألا ترى أنّ الحروف المقطَّعة منحصرة في ثمانية وعشرين حرفاً وبها يعبّر من حيث وجوه التركيب وفنون الترتيب عن جميع المعاني والمقاصد التي يقع التعبير عنها بين أهل العالم في محاوراتهم، ومكاتباتهم، وتصانيفهم، فالمعاني لا ريب في لاتناهيها مع أنه يعبَّر عنها بالألفاظ وإن لم يُحِط التعبير إلَّا بالمحدود منها.
فإن قلتَ: إنّ وجوه الدلالة محصورة معروفة عند أهل المعرفة باللسان، فلو دلّ القرآن على جميع المعاني والمفاهيم والحقائق والوقايع والحوادث اليومية الجزئية حتى خصوص الحركات الصادرة عن خصوص أفراد الإنسان في جميع الأزمان بل ساير الشؤون والأحوال والأطوار والحركات، والخطرات، والإرادات، والاقتضاءات الواقعة في جميع العوالم من الغيب، والشهادة في الفلكيات والعنصريات، والمركبات المعدنية، والنباتية، والحيوانية لَفهمها أهل اللسان الذين قد أنزل الله تعالى بلسانهم الرسول والقرآن كما قال: ﴿وما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِه..﴾ إبراهيم:4، وقال: ﴿نَزَلَ بِه الرُّوحُ الأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ الشعراء:193-195، وقال: ﴿ولَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ القمر:22، وقال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْناه قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ يوسف:2، إلى غير ذلك من الآيات والأخبار الدالَّة على ذلك، على أنّ المفسّرين من الخاصّة والعامّة قد تصدّوا لتفسيره وللفحص عن تنزيله وتأويله فلم يزيدوا على ما دوّنوه من تفاسيرهم مع أنّهم ذكروا كلّ ما قيل من حقّ أو باطل، وأين هذا من كلّ الأحكام التي ذكروا أنّ القرآن لا يستفاد منه إلَّا أقل قليل من مجملاتها، ولذا فزعوا إلى العمل بأخبار الآحاد، بل إلى ساير الطرق الظنّية في استنباط الأحكام الشرعية، بل أين هذا من جميع الحقائق التكوينية والحوادث الكونية المتعلّقة بجميع ذرّات العالم مما كان أو يكون إلى يوم القيامة؟
قلتُ: هذا كلَّه اجتهاد في مقابل النصوص، وجرأة في الردّ على أهل الخصوص، وقد قال سبحانه: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِه ولَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُه..﴾ يونس:39، وذلك أنّك قد سمعتَ منّا أوّلاً أنّ التصديق التفصيلي في هذا الباب غير ممكن لنا، كيف وهو موقوف على تمام العلم والإحاطة بظاهر القرآن وباطنه، وباطن باطنه، وهكذا إلى سبعة بطون أو سبعين بطناً أو أزيد من ذلك.

ثمّ اعلم أنّ ما ذكر في السؤال من حصر وجوه الدلالة فيما هو المعروف عند أهل العُرف ممنوع جدّاً، فإنّ التفاهم بالدلالات الثّلاث إنّما هو للعامّة، وللخواصّ والخصّيصين طرقٌ أخرى لا يجري بها القلم.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد