يبدو أن الطغيان والظلم والقسوة عند البشر لعبت دوراً كبيراً في منع انتشار وانتصار دعوات النُّبوَّة وخلاص الإنسانية، ويبدو أن الفراعنة والأكاسرة والقياصرة والملأ، وأصحاب السلطة والنمردة، أداروا بدوَلِهم وأنظمتهم لعبة الطغيان والصدّ عن سبيل الله وقمع حركة الأنبياء وإرهابها وإيصالها في النهاية إلى طريق مسدود.. لقد كادت المعركة بين الدعوة إلى عبادة الله ونجاح إبليس في إغواء البشرية تحقق نجاحاً لمصلحة إبليس.. فهذا نوح(ع)، بعد تسعمئة وخمسين عاماً، يصيبه اليأس من الناس، فيدعو الله تعالى إلى استئصال الكافرين، بعد أن لعب الملأ، وهم طبقة المتنفذين المتسلطين، دوراً في حجب امتداد دعوته بين الناس. فيتدخل الله تعالى ويعاقب البشرية العاصية بالطوفان وينقذ نوحاً ومن معه بالسفينة.
وهذا إبراهيم(ع)، يصل مع النمرود إلى طريق مسدود، حتى أن المستضعفين الذين أُرسل إبراهيم لخلاصهم تبرعوا بجمع الحطب لإحراقه، طاعةً لسلطان نمرود، فيتدخل الله تعالى لينقذ إبراهيم من النار، بعد أن ألقاه النمرود في النار، ولم يبق إلاّ أن يأمر الله تعالى النار بأن تكون برداً وسلاماً على إبراهيم.
وهذا موسى(ع) يعاني من تسلط فرعون، وعندما يحاول إنقاذ بني إسرائيل يكاد يدركه فرعون فيتدخل الله تعالى ويشق له البحر.
وهذا النبي عيسى(ع) يحاول أن يحصر مهمته الإلهية أولاً بهداية الخراف الضالة من بني إسرائيل، ويتجنب التعرض لقيصر مما يعني أن طغيان قيصر وبطشه الدُموي كان مأخوذاً بعين الإعتبار في منهاج النبي عيسى(ع)! وقد ظهر ذلك جلياً عندما تردد حاكم القدس(أورشليم) في صلب المسيح الذي كان اليهود يضغطون لتنفيذ الصلب فيه، بينما هو كان يريد صلب اللصين، ولم يكن هناك سبب وجيه عنده لصلب المسيح سوى ضغط اليهود عليه.
وهذا الملأ يلعب دوراً خطيراً في محاصرة أنبياء الله شعيب وهود وصالح... وربما كانت المشكلة هي هي عند كل الأنبياء: هي وجود سلطة أمنية مركزية طاغية، تتجسد تارة بنمرود وأخرى بفرعون وثالثة بقيصر ورابعة وخامسة بسلطة الملأ الحاكم.
لكن أمراً ملفتاً، وواقعاً بارزاً، ظهر في شبه الجزيرة العربية، إنه الطبيعة التي ولَّدت التفكُّك الإجتماعي الذي ولد القبلية، والعصبية القبلية العمياء، التي تفرّد بها المجتمع العربي وأنتجت استحالة قيام سلطة أمنية مركزية، يعني، بعبارة أخرى، استحالة قيام فرعون أو قيصر أو كسرى أو نمرود وسيطرتهم على الحياة في الجزيرة العربية، التي كانت من جهة أخرى، لقحطها وجفافها وفقرها في مأمن من غزو وسيطرة الفراعنة والقياصرة والأكاسرة.
إذن هي البقعة من العالم التي لا يمكن أن ينشأ فيها فرعون أو نمرود أو قيصر.. وتجربة الأنبياء، منذ نوح، وقبل إبراهيم، وبعد إبراهيم، طوال التاريخ، كانت شاهدة على أن أصل المشكلة أمام الأنبياء، هي الفراعنة والقياصرة والأكاسرة والنماردة والملأ السلطوي.
وعينُ الله تعالى، التي تراقب هذه التجربة قبلاً وبعداً، تريد للإنسانية أن تنتصر في معركة الإبتلاء والإمتحان على إبليس، وأن تربح جولة الفوز بالرضوان والجنة، فلا بد إذن من حلٍّ للإنسانية، ومن نبيِّ تنتصر به على عدوِّها، يولد وينشأ في مأمن من الفراعنة والأكاسرة والقياصرة والملأ من قومه.
وهكذا! كانت نبوَّة محمد(ص) الخاتمة، وأين! ومتى! في عين الله تعالى منذ الأزل.. فلما طرد النمرود نبي الله وخليل الرحمن إبراهيم من أور في الدولة الكلدانية.. ابتدأت خيوط المشروع الإلهي في خلاص الإنسانية تنسج النُّبوَّة الخاتمة. وهي أن تزرع بذرة في قلب الصحراء العربية حيث يستحيل قيام فرعون، وحتى يولد من تلك البذرة في يوم من الأيام خاتم النبيين الذي يقود مسيرة النور وهو بمأمن، على الأقل، من فرعون أو نمرود أو قيصر، يعيق رسالته.
ولكن إبراهيم لم يُرزق بأولاد، فسارة زوجته عجوز عقيم. غصّت سارة، القديسة الطاهرة، بريقها، وهي تنظر إلى هذا الشيخ الجليل، النبي إبراهيم، خليل الرحمن، وقد وهن عظمه وابيضّ شعره وبلغ من الكبر عِتِياً، وهو يوغل في العمر، ولما يأنس بعد بوريث من صلبه تقر به عينه، وهي لا تملك له من ذلك شيئاً، فإنها عجوز عقيم. ثم خطر على بالها خاطر، لعله من إيحاءات الغيب، ويُعبِّر أقل ما يعبِّر عن طُهرها وتقواها وصلاحها لكي تتشرَّف بأن تكون زوجة خليل الرحمن، فقد نظرت إلى خادمتها وأمَتِها هاجر، الشابة التي تستقبل عُمرها، ورقَّ قلب سارة وهبطت رحمانية على قلبها، وسرعان ما وهبت زوجها نبيَّ الله إبراهيم، أو باعته، لا فرق، أمَتِها هاجر.
- عسى أن يرزقُك الله تعالى طفلاً تقرّ به عينك.
إنها مبادرة طيبة، من زوجة مخلصة مثل سارة، يبدو أن نبي الله إبراهيم كان مخلصاً لها أيضاً أكثر منها، فهو لم يتزوَّج امرأة أخرى، لعله حرصاً على ألاَّ يخدش فيها حبّ تفرُّد المرأة بزوجها. ولكنها بهذه المبادرة أخرجت المشكلة من دائرتها المقفلة وفتحت باباً للنور في هذه الأُسرة التي شاخت، وكبرت بإثنين فقط
وما أن أهلّ إسماعيل، وانتشرت بسمة السعادة والرضا على وجوه إبراهيم وسارة وهاجر حتى هبط جبريل بقرارٍ من الله عزّ وجلّ: ألله يأمرك أن تأتي معي أنت وهاجر وإسماعيل.
لم يسأله إبراهيم، إلى أين؟ ولم يستوضح أو يستفهم، فقد كان صدِّيقاً نبياً.
أليس أبا الأنبياء وخليل الرحمن؟
وانطلق الموكب الملكوتي النبوي من أرض كنعان في الأرض المقدَّسة، يطوي الصحاري والفيافي والقفار، وإبراهيم يطلب من جبريل الإكتفاء: هنا يا جبريل! وجبريل يصرّ على الإمعان والإيغال في عمق الصحراء والجبال السوداء الصلدة. ثم أخذ الموكب بالهبوط في وادٍ مقفرٍ مظلم لا ينبت فيه نبات ولا يعيش فيه ظلفٌ ولا حافرٌ ولا يوجد فيه قطرة ماء.
- إن الله يأمرك أن تترك هاجر وإسماعيل في هذا الوادي.
من المؤكد أن إبراهيم لم يُصدم ولم يُفاجأ، فقد كان صِدِّيقاً نبيَّاً، بل التفت إلى السماء وتوسل إلى الله تعالى قائلاً:﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ . و﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.
ويبدو من دعاء إبراهيم أنه كان مُدْرِكاً لخارطة الطريق الإلهية عارفاً بأوَّلها وبآخرها، فها هو خاتم النبيين (محمد)(ص) يُعَلِّق على دعاء النبي إبراهيم بقوله: أنا دعوةُ إبراهيم.
إن ما ذكرناه من خطة إلهيَّة مسبقة هدفها زرع إسماعيل في قلب الصحراء العربية لكي يولد من ذريته بعد آلاف السنين خاتم النبيين هو الذي يسوِّغ تصرُّف النبي إبراهيم بنقل أمِّ ولده هاجر وطفله إسماعيل من أرض خير وظِل وماء وشجر إلى أرض قحط وجفاف وموت على بعد آلاف الأميال في قلب الصحراء في وادٍ غيرِ آمن من الوحوش المفترسة، ولو لم يكن لإبراهيم المسوِّغ الذي ذكرناه لحمل تصرُّفه على عدم العقلانية وعلى الغرابة ولاستنكره كل إنسان.. فلماذا يأتي بامرأة وطفل ويتركهما في وادٍ قاحل على بعد آلاف الأميال من الحضارة والمدنية، أليست هذه جريمة ووحشية وقسوة!!
ولا تكفي الأسطورة اليهودية في تبرير تصرُّف النبي إبراهيم. فهي تقول إن سارة حسدت هاجر واغتاظت منها لأنها رُزِقت ولداً، بينما هي عجوزٌ عقيم، فطلبت من إبراهيم إبعاد هاجر، فأبعدها إبراهيم وولدها إلى مسافة ثلاثة آلاف كيلو متر.. فإن في هذه الأسطورة مواضع للخلل الذي يكشف جهل وحقد واضعيها، لأن سارة قديسة طاهرة وهي التي وهبت أو باعت هاجر للنبي إبراهيم من أجل أن يولد له منها ولد.. فكيف تنقض ما غزلت؟ وكيف تبغضها وهي صاحبة فكرة أصل مشروع ولادة هذا الولد؟ ثم كيف تسيئ إليها وتضطهدها وهي على ما هي عليه من التقوى.
ثم حتى لوفرضنا جدلاً أن النبي إبراهيم قرّر إبعاد هاجر عن ضرَّتها سارة، فعليه أن يبعدها إلى مسافة قريبة أو إلى قرية مجاورة، من ضمن مناطق الحضارة وحيث الماء للشرب على الأقل وبحيث يبقى ولده الوحيد تحت رعايته.. أما أن يبعدهما إلى مسافة ثلاثة آلاف كيلو متر في قلب الصحراء.. فلا تكفي الأسطورة اليهودية لتبرير تصرفه.. وتكفي النظرية الإسلامية.. فهذا الإبعاد كان بأمر من الله تعالى وفي خطة مسبقة محكمة لكي يولد من هذا الولد، إسماعيل، في يوم من الأيام، الولد الذي سوف يشع نوره على العالم، خاتم النبيين، محمد بن عبد الله(ص) في مجتمع آمن من فرعون وقيصر ونمرود.. حتى تثبت وتنتصر رسالة السماء.
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الإسلام وميول الإنسان
شروط البحث
الزهراء للإمام عليّ: اشتملت شملة الجنين (1)
التمثيل بالمحقَّرات في القرآن
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة