الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
إنّ الإنسان موجود متفكّر مختار فيعمل حسب ما تفكّر فيه واختاره. والقرآن يهتف بأنّ اللّه ﴿..الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ طه:50، فقد أعطى الإنسان قدرة التفكّر والاختيار، ثمّ هداه إلى ما هو كماله ورُقيّه، كما بيّن له ما هو رداه وهُويّه.
فالعرفاء يرون كمال الإنسان في معرفة نفسه والسير في منازلها، ومدار بحثهم النظري هو الوحدة الشخصيّة لحقيقة الوجود وإطلاقها وتعيّن مظاهرها، ومدار بحثهم العملي هو الشروع من اليقظة والانتهاء إلى التوحيد.
والحكماء يرون كمال الإنسان في عقله النظري الّذي به يتأثّر علماً عمّاً فوقه، بأن يبلغ العقل المستفاد، وفي عقله العملي الّذي به يؤثّر عملاً فيما دونه بأن يبلغ بعد التخلية والتجلية والتحلية مقام الفناء.
وعلماء الأخلاق يرون كمال الإنسان في اتصافه بجنود العقل واتّقائه جنودَ الجهل. ويرون أنّ جنود العقل لا تجتمع إلاّ في نبيّ أو وصيّ نبيّ أو مؤمن قد امتحن اللّه قلبه للإيمان، وأما سائر الناس من موالي الأئمّة فإنّ أحدهم لا يخلو من أن يكون فيه بعض هذه الجنود حتّى يستكمل وينقى من جنود الجهل. وإنّما يدرك ذلك بمعرفة العقل وجنوده، وبمجانبة الجهل وجنوده.
مدارج السّير والرقيّ
وليس الغرض هنا الميز بين العرفان والحكمة والحديث، بل المقصود هنا بيان بعض المراحل السامية للإنسان وكيفيّة وصوله إليها أو البعد عنها، حتّى يتبيّن في ضوئه ما أفاده الإنسان الكامل الّذي كان يرى نور الوحي والرسالة ويشمّ ريح النبوّة، ذاك مولانا أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، حيث قال: «فليَنظُر ناظِرٌ، أسائر ٌهو أم راجِع؟». ولنيل تلك المرحلة شرائط وآداب لا تتحقّق بدونها، كما أنّها لا تتخلّف عنها، لأنّه تعالى لا يخلف الميعاد.
ولنشر إلى نبذٍ من تلك الوظائف الّتي لا بدّ للسالك من تحصيلها والتحقّق بها:
أوّلها: معرفة الهدف الحقّ، والطريق إليه، وكيفيّة السَّير. إذ ما من حركةٍ إلّا وهي تحتاج إلى المعرفة، ولذا دعا القرآن إليها ببياناتٍ شتّى، كالتفقّه والتعقّل والتفكّر والعلم.
وبيانه حسبما أفاده أمير المؤمنين عليه السلام، بقوله: «..فالنَّاظِرُ بِالقَلبِ العَامِلُ بِالبَصرِ، يَكُونُ مُبتَدَأُ عَمَلِه أنْ يَعلَمَ أَعَمَلُه علَيه أمْ لَه؛ فإن كانَ لَه مَضَى فِيه وإِنْ كَانَ عَلَيْه وَقَفَ عَنْه، فَإِنَّ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، فَلَا يَزِيدُه بُعْدُه عَنِ الطَّرِيقِ الوَاضِحِ إِلَّا بُعْداً مِن حَاجتِه، والعَامِلُ بالعِلمِ كالسَّائرِ على الطرِيقِ الوَاضِحِ، فَلْيَنظرْ نَاظِرٌ أسائِرٌ هو أمْ راجِعٌ»، إلى أن قال عليه السلام: «واعلَمْ أنّ لكلِّ عملٍ نباتاً، وكلُّ نباتٍ لا غِنى بِه عن الماءِ، والمِيَاه مُختلفةٌ فَمَا طَابَ سَقْيُه طابَ غَرْسُه وحَلَتْ ثَمرَتُه، وما خَبُثَ سَقْيُه خَبُثَ غَرْسُه وأمَرَّتْ ثمرَتُه».
والحاصل: أنّ بالعلم بالهدف الخيِّر يُعرف معنى النفع والضرّ؛ إذ الخير هو الهدف الحقّ، والنفع ما يفيد في السلوك إليه، والضرّ ما يصدّ عنه، فمبتدأ السلوك معرفة النافع والضارّ حتّى يقدِم أو يقف.
ثانيها: الهجرة، وهي هجر الرجز والرجس، برفض كلّ ما يصدّه. ولقد نَدَبَ القرآن إليها في غير موردٍ وجعلها مدار ولاية المؤمنين بعضهم لبعضٍ، فلا ولاية لمَن لم يهاجر، وحكم بأنّ من يخرج من بيته مهاجراً إلى اللّه ورسوله ثمّ يدركه الموت فقد وقع أجره على اللّه، وكفى بذلك فوزاً، ووعَدَ من هاجر في سبيل اللّه ثمّ قُتل أو مات، رزقاً حسناً. كلّ ذلك ليتحرك نحو الكمال النهائي ويسير إلى الهدف المخلوق لأجله ويتحقّق به.
وثالثها: السرعة في هذا السير واقتحام عقبات هذا المسير الوَعر. ولقد ندب إليها القرآن وجعلها موجبة للصلاح وسبباً لاستجابة الدعاء، وبيّن خطأ من توهّم أنّ الإمداد المادّي بالمال والولد مسارعة في الخير، وأفاد أنّ المسارعة إلى الخير هو التوحيد والإشفاق من خشية الربّ والإيمان بآياته، ووَجل القلب عند تذكّر لقاء اللّه.
والحاصل: أنّ المهاجر إلى إمامة المتّقين لا بدّ له أن يسارع في هجرته هذه حتّى يجتاز العقبات الكؤود.
ورابعها: السبق بعد السرعة، إذ الاستباق وجعل الغير مسبوقاً بالتقدّم عليه في السير المعنوي والملكات الفاضلة ممدوح، وندب القرآن إليه في موارد متعدّدة،كالآية: ﴿..فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ..﴾ المائدة:48. وجعل السابقين من المقرّبين الّذين هم فوق الأبرار؛ لأنّ «الظالِمُ يَحومُ حَوْمَ نَفسِه، والمُقتَصِدُ يَحومُ حَوْمَ قلبِه، والسّابِقُ يَحومُ حَومَ ربِّه عزّ وجلّ» كما في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام.
وخامسها: الإمامة، لأنّ العارف إذا هاجر إلى ربّه وسارع في هجرته واستبق الخيرات وسابق غيره فيها، صار إماماً يأتمّ به غيره من أهل التقى؛ لأنّه يهدي المتّقين كما أنّ القرآن هُدىً للمتّقين، فيصير بمنزلة القرآن الناطق حسب سعة وجوده. ولا يمكن نيل هذا الشأو القاصي إلاّ بعد الابتلاء بكلمات اللّه وإتمامهنّ والتحقّق بها حسبما، أشار إليه قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ البقرة:124. ولا ينال عهده تعالى إلاّ من كان عادلاً طيلة عمره، إذ من كان ظالماً طول عمره أو كان ظالماً في آخر عمره، وإن كان عادلاً في بدء أمره، لا يشمله دعاءُ خليل الله عليه السلام أساساً، لتعاليه عليه السلام عن مسألة الإمامة لهذين الصنفين، فينحصر فيمن يكون عادلاً طول دهره....وهو الذي يناله عهد اللّه تعالى.
وهكذا لا يمكن الرُقيّ إلى هذا المقام إلاّ باليقين الّذي ما أنعم اللّه على أحدٍ بأفضل منه، وبه يدرك الغاية القصوى، وإلاّ بالصبر في أبعاده الثلاثة: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على المصيبة، وبالعبوديّة الخالصة، وبالجامعيّة للكمالات العلميّة والعملية حسبما أشار إليه قوله تعالى في سورة (الفرقان) في وصف عباد الرحمن.
ثمّ الإمامة، كما أنّها زعامة للناس في عالم المُلك، كذلك هي هدايةٌ لأعمالهم وملكاتهم في عالم الملكوت، حيث إنّ أعمالهم وكلماتهم الطيّبة إنّما تصعد إلى اللّه تعالى تبعاً لصعود ما للإمام من الكلمات الطيّبة، لأنّه بنفسه كلمة تامّة ومن الكلمات التامّة للّه تعالى، يوحى إليه فعل الخيرات، وهذا غير وحي القانون والتشريع، تدبّر تجد الميز بين وحي الفعل ووحي الحكم.
مدارك الهويّ والردى
هذا مجمل القول في رُقيّ الإنسان، من المعرفة والهجرة والسرعة والسبق إلى الإمامة، وفي قبال رقيّه رداه، وفي قبال صعوده الهُويّ، لأنّه واقف بين نجدي الأوج والحضيض، وسبيلي الإيمان والكفر. وكما أنّه كان لرقيّه درجات يكون لهويّه دركات:
أوّلها: الجهالة المقابلة للعقل لا العلم، إذ العلم بنفسه قد يكون جهلاً «رُبّ عالمٍ قد قتَلَه جهلُه، وعلمُه معه لا يَنفعُه».
ثانيها: هجر القرآن: ﴿..يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا﴾ الفرقان:30.
ثالثها: السرعة في تلك الهجرة الكاذبة بالمَرَح في المال والبنين وأكل التراث أكلاً لمّاً، وحبّ المال حبّاً جمّاً، وتخيّل ذلك سرعةً في الخير.
ورابعها: السبق الكاذب، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ﴾ الأنفال:59.
وخامسها: الإمامة الكاذبة، كما في قوله تعالى: ﴿..فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾ التوبة:12.
وكم هو الفرق بين أئمّة الصدق والعدل الّذين هم «قُوَّامُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وعُرَفَاؤُهُ عَلَى عِبَادِهِ، ولَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلَّا مَن عَرَفهُمْ وعَرَفُوهُ، ولَا يَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا مَن أَنْكَرَهُم وأَنْكَرُوه»، وأئمّة الكذب والجور حيث قال عليّ عليه السلام: «وإنِّي سَمِعتُ رَسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يَقُولُ: يُؤتى يومَ القيامةِ بِالإمامِ الجائرِ وليسَ معهُ نَصيرٌ ولا عاذِرٌ، فَيُلْقَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيَدُورُ فِيهَا كَمَا تَدُورُ الرَّحَى، ثمّ يَرتَبِطُ في قعرِهَا».
نسأل اللّه تعالى أن يوفّقنا للرقيّ إلى إمامة المتّقين ويجنّبنا الهويّ إلى إمامة الجائرين، بمحمّد وآله الطاهرين.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان