مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشهيدة بنت الهدى
عن الكاتب :
ولدت الشهيدة آمنة بنت آية الله السيد حيدر الصدر (بنت الهدى) عام 1356هــ 1937م في مدينة الكاظمية، عرفت بالذكاء الوقاد، وسرعة الحفظ، وقد لعبت دوراً فعالاً وملموساً في هداية الفتيات، مارست عملها التبليغي عبر إلقاء المحاضرات والكتابة في مجلة "الأضواء" ثم مارست كتابة القصة لمخاطبة الجيل الناشيء بأسلوب قصصي بسيط، من مؤلفاتها: الفضيلة تنتصر، ليتني كنت أعلم، امرأتان ورجل، صراع مع واقع الحياة، لقاء في المستشفى، الخالة الضائعة، الباحثة عن الحقيقة ،كلمة ودعوة، ذكريات على تلال مكة، بطولة المرأة المسلمة، المرأة مع النبي (ص) . استشهدت مع أخيها السيد محمد باقر الصدر عام 1980.

ذكريات على تلال مكة (2)

وارتفعت بنا الطائرة.. بعد أن عقدنا نية الإحرام ونحن لا نزال على أرض مطار بغداد، ورددنا كلمات التلبية قائلات «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك».. ورأينا الشمس تشرق علينا صافية نقية تهبنا الدفء وتغمرنا بالضياء فاستغربنا ذلك وقد كانت تظلّلنا قبل دقائق، وترشّنا بقطرات متلاحقة من المطر! فهل أن في الإمكان أن يتغير الجو في مثل هذه السرعة؟

وما أبعد البون بين هذه الشمس الدافئة التي تشرق تحت سماء نقية صافية.. وبين ذلك الضباب الذي كان يشمل جوانب انظارنا قبل قليل؟ حقًّا إنه لأمر عجيب! هذا التحوّل الطارىء على صفحات السماء، وهذا التبدّل الحادث في أعالي الأفق!

أولم نكن نتطلّع إلى السماء نبحث فيها، وبين طبقات السحب التي تحجبها عن أثر الشمس؟ أولم تختلط قطرات المطر مع دموع المودعين، ويتجاوب أنين الريح مع زفرات المفارقين؟ فكيف حدث هذا يا ترى؟ أهو استجابة لدعاء داع ابتهل إلى الله قائلًا: يا محول الأحوال حول حالنا إلى أحسن حال.. أم ماذا؟؟

 

وأخيرًا اكتشفنا الحقيقة، فعرفنا أن الطائرة قد ارتفعت بنا فوق السحاب، إذن فنحن الذين ارتفعنا عن السحاب، وأمطاره وليس السحاب هو ذلك الذي انكشفت عنا بتحول سريع ، فما أحلى ذلك وما أروع أن نكون ملحقين بأجسامنا في فضاء نقي، وتحت شمس صافية الضياء، تاركين وراءنا متاعب المطر ومصاعبه، وقد كشف لنا ذلك الموقف حقيقة ما أكثر من يجهلها منّا.. وهي.. أن الإنسان يتمكن من الارتفاع بروحه وفكره عن سحب الريب وغيوم الجهل والانحراف، نعم يرتفع بروحه عنها ليستنقذها نقية طاهرة، دون أن تعلق بها شائبة أو يلوثها درن من الأدران.. فهو يستطيع ذلك لو أراد حتى ولو عاش في أجواء مظللة بالغيوم ثم توصلنا إلى حقيقة ثانية أيضًا.. وهي أن على الإنسان أن يسعى نحو مطلع النور بأي ثمن، وأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ولا يحول الإنسان من الظلمات إلى النور، إلا إذا شاء هو ذلك، وعمل من أجل أن يكون مؤهلًا لذلك التحوي ، فما أحلى أن نحلق بأنفسنا في سماء نقية، كما حلقنا بأجسامنا خلال رحلتنا بأجسامنا خلال رحلتنا تلك، وما أروع أن نلتفت فنجد ذاتنا وقد تنزهت عن الرذائل، وحلقت في سماء الكمال، تاركة وراءها ويلات الانحراف وآفات السقوط، كما تركنا وراءنا ونحن في الطائرة الأرض المغطاة بالوحول والآفاق الملبدة بالغيوم.

 

وبعد مضيّ مائة دقيقة، أعلن لنا عن قرب هبوطنا إلى مطار جدة، وذلك يعني أننا سوف نكون بعد يوم أو يومين في مكة.. فما أعظم هذه الحقيقة، وأضخم ما تعنيه، وترددت في ذهني وعلى فمي هذه الأبيات..

قالوا غدًا نأتي ديار الحمى

وينـزل الركب بمغنـاهـم

فكل من كان مطيعـًـا لهم

أصبح مســرورًا بلقياهـم

قلت فلي ذنب فما حيلتـي

بأي وجــه أتـلـقـاهـم

قالـوا أليس العفو من شأنهم

لا سيما عمّن ترجّـاهم

فجئتهم أسعى إلى بابهـم

أرجوهم طورًا وأخشاهــم

 

واستقرت بنا الطائرة على أرض مطار جدة، بعد أن دارت فوق مدارجه دورات طويلة، فحمدنا الله على سلامة الوصول وحسن التوفيق.. ثم تطلعت أنظارنا نحو الباب تترقب الإذن بالنزول. ومضت دقائق طوال لأنها كانت مشوبة بالانتظار.. ومن خصائص الانتظار مهما كانت أنواعه وبواعثه وأسبابه، من خصائصه أن يضفي على الوقت مطاطية هائلة، فيضاعف أدراكنا بأهمية إلى أضعاف كثيرة، ومضت فترة، ثم طلب منا أن نبرز جوازاتنا الصحية! فأمسك كلّ منا بجوازه (الأصفر) بين أنامله، وكأني إنسان خرج لتوّه من إحدى المصحات، وبقينا نتطلع نحو الباب في مزيج من اللهفة والضجر، وبنظرات تنطلق بالاحتجاج..

وأخيرًا انفتح باب الطائرة عن رجلين صعدا ليطمئنا على سلامة القادمين من الأمراض (الوبائية) فتفحّصا معظم الجوازات، ومن العجيب أننا كنّا ممن لم تصل إليهم عملية التفتيش، وكأن سلامتنا بدت واضحة جلية دون معاينة ومزيد تدقيق.. فكيف حصل هذا؟ ولماذا؟ ألسنا مثل باقي المسافرين؟ إنه عدم الإخلاص في العمل والإهمال لا أكثر ولا أقل! والجواز الصحي عن أي شيء كان يحكي يا ترى؟ إنه كان يحمل شهادة التطعيم ضدّ الهيضة وضدّ الجدري، ولم يكن هناك أي احتمال أن أحد المسافرين مصاب فعلًا بمرض الجدريأاو مرض الهيضة، لا.. ولكن المطلوب التطعيم الوقائي، وهو التأكد من أن هذا المسافر الوافد، قد حصّن نفسه عن التعرض لهذه الأمراض، أخذ المسافرون بالهبوط.. وبقيت نزولي في مقتري الأخير والجواز فبدأت أفكر.. تذكرت جالسة أنتظر خلو السلّم من الزحام الصحي الذي أسأل عنه من منكر ونكير وأهمية كلّ تطعيم وقائي يشير إليه ذلك الجواز، إنهم يطالبونني بشهادة التلقيح ضد أمراض عديدة، هذه الأمراض التي يعاني المجتمع من ويلاتها الشيء الكثير، نعم هذه الأمراض التي لا تتولد لدى الإنسان نتيجة ضعف جسم أو قرب من المصابين، وإنما هي وليدة ضعف الإيمان وتحلل الشخصية، إنها وليدة الذوبان في شخصيات الآخرين مهما كان هؤلاء الآخرون منحرفين أو مبتذلين أو متذبذبين.. إنه مصل وقائي يهب للإنسان حصانة تقيه ويلات السقوط..

 

نعم. إن الإنسان ليسأل في مقره الأخير عن روحه، لماذا أطلقها وراء رغباتها بغير رقيب؟ وعن فكره لماذا جعله يتجه حيث شاء دون تهذيب؟ وعن قلبه كيف أهمله فجعل آماله وأمانيه تنمو أوراقها وتمتد فروعها كالشجرة التي تفتقر إلى التشذيب؟ إنه ليطالب بجواز صحي ومن أين له ذلك الجواز؟ إلا إذا كان خلال حياته قد عمل على الوقاية، وباشر عملية التطعيم، إن الموظّف قد يهمل أو يغفل كما أهملنا أو غفل عنّا.. أمّا هناك.. حيث يتلقّانا ملائكة الله الموكلين بفحص (جوازتنا الصحية) فليس فيهم من يغفل عن صغيرة كانت أو كبيرة لأنهم «ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون»..

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد