قرآنيات

حقائق المجتمع (2)


السيد محمد باقر الصدر ..

الحقيقة الثالثة: اختيار الإنسان
الحقيقة الثالثة التي أكّد عليها القرآن الكريم، من خلال النصوص المتقدّمة، هي حقيقة اختيار الإنسان وإرادته. والتأكيد على هذه الحقيقة في مجال استعراض سنن التاريخ مهمٌّ جدّاً، لأنّ البحث في سنن التاريخ خَلَقَ وهماً عند كثيرٍ من المفكّرين، (وهو) أنّ هناك تعارضاً وتناقضاً بين حريّة الإنسان واختياره وبين سنن التاريخ، فإمّا أن نقول بأنّ للتاريخ سننه وقوانينه، وبهذا نتنازل عن إرادة الإنسان واختياره وعن حريّته، وإمّا أن نسلّم بأن الإنسان كائنٌ حرٌّ مريدٌ مختارٌ، وبهذا يجب أن نلغي سنن التاريخ وقوانينه، ونقول بأنّ هذه الساحة قد أُعفيت من القوانين التي لم تعفَ منها بقيّة الساحات الكونيّة.
هذا الوهم كان من الضروريّ للقرآن الكريم أن يزيحه وهو يعالج هذه النقطة بالذات، ومن هنا أكّد على أنّ المحور في تسلسل الأحداث والقضايا إنّما هو إرادة الإنسان. يكفي الآن أن نستمع إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾، ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً﴾، ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً﴾. انظروا كيف أنّ السنن التاريخيّة لا تجري من فوق رأس الإنسان، بل تجري من تحت يده، ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم﴾ ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً﴾
إذا، هناك مواقف إيجابيّة للإنسان تمثّل حريّته واختياره وتصميمه، وهذه المواقف تستتبع ضمن علاقات السنن التاريخيّة، تستتبع جزاءاتها المناسبة، تستتبع معلولاتها المناسبة.
إذا، فاختيار الإنسان له موضعه الرئيسيّ في الساحة التاريخيّة، والتي لها طابع إنسانيٌّ، لأنّها لا تفصل الإنسان عن دوره الإيجابيّ، ولا تعطّل فيه إرادته وحريّته واختياره، وإنّما تؤكّد أكثر فأكثر مسؤوليّته على الساحة التاريخيّة.


ما هو ميدان هذه السنن التاريخيّة؟
كنّا حتى الآن نعبّر ونقول: بأنّ هذه السنن تجري على الساحة التاريخيّة. لكن، هل أنّ الساحة التاريخيّة بامتدادها هي ميدان للسنن التاريخيّة؟ أو أنّ ميدان السنن التاريخيّة يمثّل جزءاً من الساحة التاريخيّة، بمعنى أنّ الميدان الذي يخضع للسنن التاريخيّة، بوصفها قوانين ذات طابعٍ نوعيٍّ مختلفٍ عن القوانين الأخرى، الفيزيائيّة والفسلجيّة والبيولوجيّة والفلكيّة، هذا الميدان الذي يخضع لقوانين ذات طابعٍ نوعيٍّ مختلفٍ، هذا الميدان هل تتّسع له الساحة التاريخيّة؟ هل يستوعب كلّ الساحة التاريخيّة، أو يعبّر عن جزءٍ من الساحة التاريخيّة؟


ماذا نقصد بالساحة التاريخيّة؟
الساحة التاريخيّة عبارة عن الساحة التي تحوي تلك الحوادث والقضايا، التي يهتمّ بها المؤرّخون. المؤرّخون أصحاب التواريخ يهتمّون بمجموعةٍ من الحوادث والقضايا، يسجّلونها في كتبهم. والساحة التي تزخر بتلك الحوادث التي يهتمّ بها المؤرّخون ويسجّلونه، هي الساحة التاريخيّة.
فالسؤال هل أنّ كلّ هذه الحوادث والقضايا ـ التي يربطها المؤرّخون، وتدخل في نطاق مهمّتهم التاريخيّة والتسجيليّة ـ هل كلّها محكومةٌ بالسنن التاريخيّة، بسنن التاريخ ذات الطابع النوعيّ المتميّز عن سنن بقيّة حدود الكون والطبيعة؟ أو أنّ جزءاً معيّناً من هذه الحوادث والقضايا هو الذي تحكمه سنن التاريخ؟ هناك حوادث لا تنطبق عليها سنن التاريخ بل تنطبق عليها القوانين الفيزيائيّة أو الفسلجيّة أو قوانين الحياة، أو أيّ قوانين أخرى لمختلف الساحات الكونيّة الأخرى، مثلاً: موت أبي طالب سلام الله عليه، موت خديجة سلام الله عليها في سنةٍ معيّنة، حادثةٌ تاريخيّة مهمّة تدخل في نطاق ضبط المؤرّخين، وأكثر من هذا هي حادثةٌ ذات بُعدٍ في التاريخ، ترتّبت عليها آثارٌ كثيرةٌ في التاريخ، ولكنّها لا تحكمها سنّةٌ تاريخية، تحكمها قوانين فسلجيّة، تحكمها قوانين الحياة التي فرضت أن يموت أبو طالب سلام الله عليه, وأن تموت خديجة سلام الله عليها في ذلك الوقت المحدّد. هذه الحادثة تدخل في نطاق صلاحيّات المؤرّخين، ولكن الذي يتحكّم في هذه الحادثة، هو قوانين فسلجةِ جسمِ أبي طالب وجسم خديجة، قوانين الحياة التي تفرض المرض والشيخوخة ضمن شروطٍ معيّنة وظروفٍ معيّنة.
حياة عثمان بن عفّان، طول عمر الخليفة الثالث، حادثةٌ تاريخيّةٌ، الخليفةُ الثالث ناهز الثمانين. طبعاً هذه الحادثة التاريخيّة كان لها أثرٌ عظيمٌ في تاريخ الإسلام، لو قُدّر لهذا الخليفة أن يموت موتاً طبيعيّاً وفقاً لقوانينه الفسلجيّة قبل يوم الثورة، كان من الممكن أن يتغيّر كثيرٌ من معالم التاريخ، كان من المحتمل أن يأتي الإمام أمير المؤمنين إلى الخلافة بدون تناقضاتٍ، وبدون ضجيجٍ، وبدون خلافٍ، لكن قوانين فسلجة جسم عثمان بن عفان اقتضت أن يمتدّ به العمر إلى أن يُقتَل من قِبَل الثائرين عليه من المسلمين. هذه حادثةٌ تاريخية، أعني أنّها تدخل في اهتمامات المؤرّخين، ولها بُعدٌ تاريخيٌّ أيضاً، لعبت دوراً سلباً أو إيجاباً في تكييف الأحداث التاريخيّة الأخرى، ولكنّها لا تتحكّم فيها سنن التاريخ، إنّ الذي يتحكّم في ذلك قوانين بُنية جسم عثمان بن عفان، قوانين الحياة وقوانين جسم الإنسان التي أعطت لعثمان بن عفّان عمراً طبيعياً ناهز الثمانين.
مواقف عثمان بن عفّان، تصرّفاته الاجتماعيّة، تدخل في نطاق سنن التاريخ، فهي مسألةٌ حياتيّةٌ أو مسألةٌ فسلجيةٌ أو مسألةٌ فيزيائية، وليست مسألةً تتحكّم فيها سنن التاريخ.
إذا، سنن التاريخ لا تتحكّم بكلّ الساحة التاريخيّة، لا تتحكّم بكلّ القضايا التي يدرجها الطبريّ في تاريخه، بل تتحكّم بميدان معيّن من هذه الساحات.


 الخلاصة
هناك ثلاث حقائق أكّد عليها القرآن الكريم بالنسبة إلى سنن التاريخ:
1 ـ الاطّراد: بمعنى أنّ السنّة التاريخيّة ليست رابطةً قائمةً على أساس الصدفة والاتفاق، وإنّما هي علاقةٌ ذات طابعٍ موضوعيّ، لا تتخلّف في الحالات الاعتياديّة التي تجري فيها الطبيعة والكون على السنن العامّة.
من هنا استهدف القرآن الكريم من التأكيد على الطابع العلميّ لهذه السنّة، أن يخلق في الإنسان المسلم شعوراً واعياً على جريان أحداث التاريخ، متبصّراً لا مستسلماً ولا ساذجاً.


2 ـ ربّانية السنّة التاريخيّة: بمعنى أنّ كلّ قانونٍ من قوانين التاريخ، هو قرارٌ ربانيٌّ. وهذا التأكيد من القرآن الكريم على ربانيّة السنّة وعلى طابعها الغيبيّ، يستهدف شدّ الإنسان - حتى حينما يريد أن يستفيد من القوانين الموضوعيّة للكون - إلى الله سبحانه، وإشعار الإنسان بأنّ الاستعانة بالنظام الكامل لمختلف الساحات الكونيّة، ليس ذلك انعزالاً عن الله سبحانه وتعالى، لأنّ هذه السنن والقوانين هي إرادة الله، وهي ممثلةٌ لحكمة الله وتدبيره في الكون.
وهناك فرقٌ كبيرٌ بين الاتجاه القرآنيّ في إسباغ الطابع الغيبيّ على السنّة التاريخيّة، وبين التفسير الإلهيّ للتاريخ الذي تبنّاه اللاهوت: فالأخير يتناول الحادثة نفسها، ويربط هذه الحادثة بالله سبحانه وتعالى، قاطعاً صلتها وروابطها مع بقيّة الحوادث، بينما القرآن الكريم يقرّر أوّلاً ويؤمن بوجود روابط وعلاقاتٍ بين الحوادث التاريخيّة ثانياً، التي هي في الحقيقة تعبيرٌ عن حكمة الله سبحانه وتعالى، وحسن تقديره، ثمّ يربط السنّة التاريخيّة بالله سبحانه.

وقد بلغ القرآن الكريم في حرصه على تأكيد الطابع الموضوعيّ للسنن التاريخيّة، وعدم جعلها مرتبطة بالصدف، أنّ نفس العمليّات الغيبيّة أناطها في كثيرٍ من الحالات بالسنّة التاريخيّة نفسها أيضاً، كعمليّة الإمداد الإلهيّ بالنصر، جعلها القرآن الكريم مشروطةً بالسنّة التاريخيّة، ومرتبطةً بظروفها: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ... ﴾، فهذا إمدادٌ إلهيٌّ غيبيٌّ، ولكنّه شُرِط بسنّة التاريخ.
فهذا ربطٌ لهذا التفسير الموضوعيّ بالله سبحانه وتعالى، من أجل إكمال اتجاه الإسلام نحو التوحيد بين العلم والإيمان في تربية الإنسان المسلم.


3 ـ اختيار الإنسان وإرادته: فقد توهّم كثيرٌ من المفكّرين أنّ هناك تناقضاً بين حريّة الإنسان واختياره وبين سنن التاريخ، لذلك أكّد القرآن على أنّ المحور في تسلسل الأحداث والقضايا إنّما هو إرادة الإنسان، ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم﴾. السنن التاريخيّة لا تجري من فوق رأس الإنسان، بل تجري من تحت يده. وهناك مواقف إيجابيّة للإنسان تمثّل حريّته واختياره وتصميمه، وهذه المواقف تستتبع ضمن علاقات السنن التاريخيّة جزاءاتها المناسبة، وهذا تأكيد أكثر على مسؤوليّة الإنسان في الساحة التاريخيّة.
نستخلص ممّا سبق أنّ السنن التاريخيّة، أنّ السنن القرآنيّة في التاريخ، ذات طابعٍ علميٍّ، لأنّها تتميّز بالاطّراد الذي يميّز القانون العلميّ، وذات طابع ربّاني لأنّها تمثل حكمة الله وحُسن تدبيره.

الساحة التاريخيّة عبارة عن الساحة التي تحوي تلك الحوادث والقضايا، التي يهتمّ بها المؤرّخون، لكن هناك حوادث لا تنطبق عليها سنن التاريخ بل تنطبق عليها القوانين الفيزيائيّة أو الفسلجيّة أو قوانين الحياة، أو أيّ قوانين أخرى لمختلف الساحات الكونيّة الأخرى، وقد تدخل ضمن نطاق اهتمام المؤرّخين لأنّها حادثةٌ ذات بُعدٍ في التاريخ، وترتّبت عليها آثارٌ كثيرةٌ في التاريخ، ولكنّها مع ذلك لا تحكمها سنّةٌ تاريخية. إذ، سنن التاريخ لا تتحكّم بكلّ الساحة التاريخيّة، لا تتحكّم بكلّ القضايا التي يدرجها الطبريّ في تاريخه، بل بميدان معيّن من هذه الساحات.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد