مقالات

مراتبُ الخوف المحمود

 

الشيخ محمد مهدي النراقي

الخوفُ المحمود على أقسام:
الأوّل
: أن يكون من الله سبحانه ومن عظَمته وكبريائه، وهذا هو المسمّى بـ«الخشية»و«الرّهْبة» في عُرف أرباب القلوب.
الثاني: من جناية العبد باقترافه المعاصي.
الثالث: أن يكون منهما جميعاً.

وكلّما ازدادت المعرفة بجلال الله وعظَمته وتعاليه، وبعيوب نفسه وجناياته، ازداد الخوف، إذ إدراكُ القدرة القاهرة والعظَمة الباهرة والقوّة القويّة والعزّة الشديدة، يُوجب الاضطرابَ والدهشة. ولا ريب في أنّ عظَمة الله وقدرته، وسائر صفاته الجلالية والجمالية غير متناهية شدّةً وقوّةً، ويظهر منها على كلّ نفسٍ ما يطيقه ويستعدّ له.
وأَنّى لأحدٍ من أُولي المدارك أن يحيط بصفاته على ما هي عليه، فإنّ المدارك عن إدراك غير المتناهي قاصرة.

نعم، لبعض المدارك العالية أن يدركه على الإجمال. مع أنّ ما يظهر للعقلاء من صفاته ليس هو من حقيقة صفاته، بل هو غاية ما تتأدّى إليه عقولهم ويُتصوّر كمالاً. ولو ظهر قَدْرُ ذرّةٍ من حقيقة بعض صفاته لِأقوى العقول وأعلى المدارك، لاحترق من سُبحات وجهه، وتفرّقت أجزاؤه من نور ربّه. ولو انكشف من بعضها الغِطاء لزهقت النفوس وتقطّعت القلوب، فغايةُ ما للمدارك العالية من العقول والنفوس القادسة، أن يتصوّر عدم تناهيها في الشدّة والقوّة، وكونها في الكمال والبهاء غاية ما يمكن ويتصوّر ويحتمله ظرف الواقع ونفس الأمر، كما هو الشأن في ذاته سبحانه.

وإدراك هذه الغاية أيضاً يختلف باختلاف علوّ المدارك، فمن كان في الدرك أقوى وأقدم كان بربِّه أعرف، ومَن كان به أعرف كان منه أخوف، ولذا قال تعالى: ﴿..إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ..﴾ فاطر:28. وقال سيّد الرسُل: «أنا أخوَفُكم من الله».
وقد قرع سمعك حكاياتُ خوف زمرة المرسلين ومَن بعدهم من فِرق الأولياء والعارفين، وعروض الغشيات المتواترة في كلّ ليلة لمولانا أمير المؤمنين عليه السلام. وهذا مقتضى كمال المعرفة الموجب لشدّة الخوف، إذ كمالُ المعرفة يوجب احتراق القلب. فيفيض أثر

الحرقة من القلب:
1) إلى البدن؛ بالنحول والصّفار والغشية والبكاء.
2) وإلى الجوارح؛ بكفّها عن المعاصي وتقييدها بالطاعات تلافياً لِما فرّط في جنب الله.
ومَن لم يجتهد في ترك المعاصي وكسب الطاعات فليس على شيءٍ من الخوف، ولذا قيل: «ليس الخائف مَن يبكي ويمسح عينيه، بل مَن يترك ما يخاف أن يُعاقَب عليه».
وقال بعض الحكماء: «مَن خافَ شيئاً هَربَ منه، ومَن خافَ اللهَ هَربَ إليه».
وقال بعض العرفاء: «لا يكون العبدُ خائفاً حتى يُنزِل نفسَه منزلة السقيم الذي يحتمي مخافةَ طول السّقام».
3) وإلى الصفات بقمع الشهوات وتكدّر اللذّات، فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة، كما يصير العمل مكروهاً عند مَن يشتهيه إذا عرف كونه مسموماً، فتحترق الشهواتُ بالخوف، وتتأدّب الجوارح، ويحصل في القلب الذبول والذلّة والخشوع والاستكانة، وتفارقه ذمائم الصفات، ويصير مستوعبَ الهمّ يخوّفه النظرُ في خطر عاقبته، فلا يتفرّغ لغيره، ولا يكون له شغلٌ إلّا المجاهدة والمحاسبة والمراقبة والضنّة بالأنفاس واللحظات، ومؤاخذة النفس في الخطرات والكلمات، ويشتغل ظاهره وباطنه بما هو خائفٌ منه لا متّسعَ فيه لغيره.

وكما أنّ مَن وقع في مخالب ضاري السّبع يكون مشغولَ الهمّ به ولا شغلَ له بغيره، وهذا حالُ مَن غلبه الخوف واستولى عليه، كما جرى عليه جماعةٌ من الصّحابة والتابعين ومَن يحذوهم من السّلَف الصالحين.
فقوّة المجاهدة والمحاسبة بحسب شدّة الخوف الذي هو حرقة القلب وتألّمه، وهو بحسب قوّة المعرفة بجلال الله وعظَمته وسائر صفاته وأفعاله، وبعيوب النفس وما بين يدَيها من الأخطار والأهوال.

وأقلّ درجات الخوف ممّا يظهر أثره في الأعمال أن يكفّ عن المحظورات، ويُسمّى الكفّ منها «وَرعاً»، فإن زادتْ قوّته كفّ عن الشّبهات، ويسمى ذلك «تقوى»، إذ التقوى أن يتركَ ما يُريبه إلى ما لا يريبه، وقد يحمله على ترك ما لا بأس به مخافةَ ما به بأس، وهو الصِّدق في التقوى، فإذا انضمّ إليه التجرّد للخدمة، وصار ممّن لا يبني ما لا يسكنه، ولا يجمع ما لا يأكله، ولا يلتفت إلى دنيا يعلم أنّه يفارقها، ولا يصرف إلى غير الله نفَساً عن أنفاسه فهو «الصِّدق»، ويسمّى صاحبه «صِدِّيقاً»، فيدخل في الصّدق التقوى، وفي التّقوى الورع، وفي الورع العفّة، لأنّها عبارة عن الامتناع عن مقتضى الشهوات. فإذاً، يؤثّر الخوفُ في الجوارح بالكفّ والإقدام.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد