مقالات

قدسيّة الشهادة في حفظ الإنسان


الشهيد مرتضى مطهري
يُعرِض أولياء الله عن طلب طول العمر في موضعين:
الأوّل: حين يشعرون بعدم قدرتهم على إحراز مزيد من النجاح في حياتهم، بل يحسّون بالتناقص(1) بدلاً من التكامل. يقول الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام في دعائه: "... وعَمِّرْنِي مَا كَانَ عُمُرِي بِذْلَةً فِي طَاعَتِكَ، فَإِذَا كَانَ عُمُرِي مَرْتَعاً لِلشَّيْطَانِ، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ"(2).
الثاني: الشهادة. فأولياء الله يطلبون الموت في موضع الشهادة دونما شروط؛ لأنّها تنطوي على خاصيّتين معاً: خاصيّة العمل، وخاصيّة التكامل. والحديث النبوي: "فوق كلّ ذي برٍّ برّ، حتى يقتل في سبيل الله، وإذا قتل في سبيل الله، فليس فوقه برّ"(3)، يؤكّد هذه الحقيقة.

* حقيقة الموت في ظلّ الشهادة
ومن هنا فإنّ الإمام عليّاً عليه السلام يُسرّ حين يسمع من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّ مصيره الشهادة. وقد تحدّث عليه السلام عن الموت كثيراً، وممّا قاله: "والله، ما فاجأني من الموت واردٌ كرهته ولا طالعٌ أنكرته، وما كنت إلّا كقاربٍ ورد، وطالب وجد"(4). هذه النظرة إلى الموت بلغت من العمق والرسوخ في نفس الإمام عليّ عليه السلام بحيث نادى حين هوى السيف على مفرق رأسه صبيحة التاسع عشر من رمضان قائلاً: "فزت وربّ الكعبة"(5).
والحسين بن عليّ عليه السلام يروي عن جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال له: "إنّ لك منزلةً عند الله لا تنالها إلّا بالشهادة"(6).
إلى هنا، تبيّن أنّ الموت على مسرح الشهادة فوزٌ للشهيد ما بعده فوز، ويستحقّ الفرح والابتهاج، بحسب السيد ابن طاووس: "لو لم تصل إلينا الأوامر بالتعزية؛ لأقمنا حفلات الابتهاج في ذكريات استشهاد أئمّتنا عليهم السلام".
والإسلام يُصرّح بأنّ الشهادة ليست إلّا فوزاً للشهيد.

* الشهيد درسٌ في الاختيار والوعي
وللشهادة دروس أخرى، فالمجتمعات الإنسانية لا تخلو من أجواء فاسدة تتطلب الشهادة.
وهنا ينبغي دفع مشاعر أفراد المجتمع على طريق الاستشهاد، عن طريق سرد ما قام به الشهيد من أعمال بطوليّة عن "وعي" و"اختيار"، فيها ترتفع مشاعر الإنسان إلى مستوى مشاعر الشهيد، وتنطبع بطابعها. ومن هنا -مثلاً- يكون البكاء على الشهيد اشتراكاً معه في ما سجّله من ملاحم، وتعاطفاً مع روحه الطاهرة، وانسياقاً مع نشاطه وتحرُّكه وتياره.
* البكاء على الشهيد: سرّ خلاص
يخطئ من يظن أنّ البكاء ظاهرة سلبيّة، تنمّ عن مشاعر الحزن والألم دائماً. فالضّحك والبكاء من خصائص الإنسان، وهما مظهران لأشدّ حالات إثارة العواطف البشريّة.
والبكاء يرافق عادة نوعاً من الرقّة والانفعال والثورة؛ كدموع الشوق والحبّ، حين يشعر الإنسان بقربه من حبيبه، قد يبكي أكثر من أي وقت آخر، بل قد يشعر في تلك الحالة باتحاده مع الحبيب.
إنّ للضحك والسرور غالباً طابعَ التوغّل في الذاتية، أمّا البكاء فله ميزة خاصّة، هي طابع الخروج من أغلال الذاتيّة، ونكران الذات، والذوبان في ذات المحبوب.
والضحك بهذا المنظار يشبه الشهوة التي ليست سوى الانغماس في الذات، أما البكاء فيشبه الحبّ الذي هو خروج من إطار الذات. الإمام الحسين عليه السلام -مثلاً- بما سجّله من مواقف على ساحة الشهادة، يملك قلوب مئات الملايين من أبناء البشر.
 

* سرُّ البكاء على الحسين عليه السلام
ولو قدر لعلماء الدين -وهم الأمناء على صيانة هذا الانشداد إلى الإمام الحسين عليه السلام- أن يستثمروا هذه المشاعر الإنسانيّة بدفعها على طريق الإمام الحسين عليه السلام، وبرفعها إلى مستوى آمال الإمام الحسين عليه السلام وروح الإمام الحسين عليه السلام؛ لأمكنهم أن يصلحوا العالم بأسره. سر بقاء الإمام الحسين عليه السلام يكمن في البعد العقلي لثورته، وفي ما تتميَّز به من منطق إنسانيٍّ سليمٍ من جهة، ومن جهةٍ أخرى، في جذورها الضاربة في أعماق المشاعر والعواطف. إنّ البكاء على الإمام الحسين عليه السلام يصون بقاء هذه الجذور العاطفيّة في النفوس، ويصونها من الضعف والزوال.
ومن هنا، نفهم حكمة توصيات أئمّتنا عليهم السلام في البكاء على الإمام الحسين عليه السلام.
ـــــــــ
1- في الأصل: بتناقص.
2- الصحيفة السجادية، ص 92. (مِنْ دُعَائِه عليه السلام فِي مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ ومَرْضِيِّ الأَفْعَالِ).
3- الكافي، الكليني، ج2، ص348.
4- نهج البلاغة، ص 378.
5- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج 1، ص 385.
6- الأمالي، الصدوق، ص 217.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد