مقالات

اليأس من رحمة الله هلاكٌ قطعيّ

الشيخ ميرزا جواد الملَكي التبريزي

من المهمّات التي على السالك أن يعرفها هي أنّ همّ الشيطان يكمن في أن يمنع الإنسان - أيّـاً كـان - من طريق الله تعالى، وإذا لم يقدر عليه من الطّرق المعهودة؛ مثل حثّه على اتّباع هوى نفسه، فإنّه يأتيه من طريق الشرع والعقل بشكلٍ خفيّ، وإذا لم يقدر أن يغلبه من هذه أيضاً، فإنّه يقول له: «قد انقضى أمرُك!! فإنك لا تقدر أن تتوب توبةً حقيقية، فللتوبة الحقيقية شروط، أين أنت منها؟ وإذا لم تقم بشرائطها، فعدمُ التوبة خيرٌ من التوبة الكاذبة».

بالإضافة إلى ذلك، يقول له: «إنّك أذنبتَ ذنوباً كثيرة، بحيث صرتَ غير مؤهَّلٍ لقبول التوبة، وغير موفَّقٍ لها».

فإذا قبل السالك كلامه هذا، فإنّه سوف يكون مغلوباً، وتتحقّق بذلك غاية الشيطان. وأمّا إذا ردّ أقواله تلك وقال له:

أوّلاً: «إنّ الرحمة الإلهيّة التي يمكن تصوّرها هي رحمة لم تَيأَس منها أنت نفسك، وقد استجاب الله تعالى دعاءك.

ثانياً: إذا كنتُ غير قادرٍ على أن أتوب توبةً كاملة، فإنني أفعل مقدارَ ما يمكنني أن أقوم به، فلعلّ الله عزّ وجلّ الرحيم يوفّقني لأكثر من ذلك، لأنني تبتُ بهذا المقدار الذي أمكنني فعله، فأفعل شيئاً أكملَ من السابق، فإذا فعلتُ ذلك يوفّقني أيضاً إلى الأفضل، إلى أن يوصلني إلى التوبة الكاملة، كما جرت عادة الله عزّ وجلّ في ذلك.

فإنّي إذا قبلتُ كلامك، فإنّ فيه هلاكي القطعيّ الذي لا نجاة بعده أبداً.. وإنّ هذا اليأس نفسه إنّما هو من الذنوب الكبيرة الموبقة، ولعلّ بسببه يعجَّل العذاب، ويكون سبباً لزيادة العذاب وخسران الدنيا والآخرة».

وعلى كلّ حال، فلو كنتَ قتلتَ سبعين نبيّاً – والعياذ بالله – فعليك أن لا تيأس وتترك التوبة، فإنّ اليأس وترك التوبة هلاكٌ قطعيّ ويكون سبباً لزيادة العقوبة، بينما يوجد في التوبة احتمال النجاة التامّة، ويوجد أيضاً النجاة من عقاب نفس اليأس وترك التوبة.

التوسُّل بأنوار الأولياء

وهناك جواب آخر قويّ وشافٍ لوسوسة هذا الخبيث، وهو أن تقول له: «إنّك تقول لي بأنّني لا أقدر على التوبة النصوح. نعم، إذا لم تشملني عناية الله عزّ وجلّ فإنّ التوبة الكاملة غير ممكنة، بل سوف لا أقدر حتّى على التوبة الناقصة. ولكن إذا شملتني عنايته جلّ جلاله، فسوف يمكنني الوصول إلى جميع المراتب والمقامات العالية، وإلى ما لا يخطر على البال منها».

وإذا قال: من أين ستصلك عنايته؟

فقل: من أين لك بأنّ عنايته سوف لا تصلني؟

فإن قال: إنّ عنايته تحتاج إلى الأهليّة.

فقل: من أين حصل أولئك الأكابر على تلك الأهلية، أليس هو عزّ وجلّ قد وهبهم ذلك؟ فإنّي كذلك أستوهبها منه عزّ وجلّ.

وإن قال: ولكن من أين لك أهلية كرمه، وفي مقابل أيّ عمل من أعمالك تتمنّى ذلك؟ ألم ترَ أنّه لا يهب ذلك لكلّ أحد؟

فقل في جوابه: أطلب ذلك بالاستجداء، فالشحّاذ يطلب بالمجانّ.

وإن قال: ومع ذلك فإنه لا يُعطى للشحّاذ كلّ شيء.

فقل: لعلّهم لم يكونوا مُجِدّين في الاستجداء.

وإن قال: إنّك عصيت، وإنّ حُكمَ الحكمِ الإلهيّ جلّ جلاله هو ردّك، وعدم قبولك.

فقل: لا يجب في حكم الجبّار والقهّار أن يغضب على كلّ عاصٍ وأن يردّه.

وإن قال: فأين تظهر قهّارية الله تعالى إذاً؟

فقل: تظهر مع أمثالك الذين عاندوا الله جلّ جلاله، ويُدخلون اليأس على عباده، ويمنعونهم من الامتثال بين يديه عزّ وجلّ خلافاً لدعوته.

وإن قال: إنّ استحقاقك للعقاب أمرٌ قطعيّ، وإنّ وعده بعذاب عاصيه قطعيّ أيضاً، بينما إجابتك وأن تُعطى لاستجدائك أمرٌ احتماليّ.

فقل: إنّك مشتبه وغافل عن وعده بالإجابة والقبول... والذي لا يحتمله أحدٌ على الله عزّ وجلّ هو خُلْف الوعد.

وإن قال: وجهك أسود من الذنوب، وحالك رديء، فبأيّ وجهٍ تذهب إلى حظيرة قُدسه؟

فقل: إذا كان وجهي أسود فإنّي أذهب متوسّلاً بأنوار وجوه أوليائه المشرقات.

وإن قال: إنّك لا تملك أهلية التوسّل بهم أيضاً.

فقل: فإنّي أتوسّل إليهم أيضاً بمحبّيهم.

وباختصار: الحذر الحذر من أن تنطلي عليك حِيَلُه، وتيأس من رحمة الله الواسعة، وقل في جوابه: لو طُردتُ عن هذا الباب ألف مرة، فمع ذلك فإنّي لا أرجع عنه، فكيف وإنّ هذا الباب بابٌ لم يُسمع لحدّ الآن أنّ أحداً قصده متضرّعاً ومستجدياً آملاً رحمته ورجاءه سبحانه، فرجع يائساً، كما أنّ فرعون، مع ما هو عليه، استجدى ليلةً فلم يرجع يائساً، وإنّما أُجيب كما أُجبتَ أنت. (...)

والخلاصة: فلو لم تكن التوبة الكاملة سهلة، بل وكذلك التوبة الناقصة، فإنّ فعل ذرّة من الخير، أو كلمة خير، أو تسبيحة واحدة، أو حمدٍ واحد، أو تهليل واحد، فإنّه بالطبع مفيد، وإنّ تركه مضرّ.

وإنّ كلّ فكرة تخطر للإنسان ليترك هذا الخير القليل فإنّها من الشيطان قطعاً، وإنّ الشيطان لا يقول للإنسان ما فيه خيره قطعاً.

وقد تكون أحياناً كلمة الخير الجزئية سبباً للنجاة التامّة للإنسان، وذلك لأنّ في هذه الكلمة خيراً جزئياً قطعاً، ففيها أثرٌ ونور، وقد يكون هذا النور أحياناً سبباً للتوفيق لخيرٍ ثانٍ، ولهذا الخير نورٌ أيضاً، فيوفّقه إلى خيرٍ آخر.. وهلمّ جرّاً، فيوصل الإنسان إلى عالم النور. وليس هناك مجالٌ لإنكار هذا القانون العام.

وغالباً ما ينال المؤمنون مقامَ التوبة الرفيع بالتدرّج، وذلك لأنّ التوبة مثل باقي المقامات الدينية، لها مراتب متعدّدة.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد