
ممارسات الفاعل بالكلمات
ليست الكلمات التي تشكَّل منها الخطاب الأيديولوجي إلا الحقيقة الواقعية لقصد ذلك الخطاب. وذلك على الرغم من ارتدائها أحياناً كسوة كثيفة من الرموز والإشارات. وسنجد ظهورات القصد حين يفلح الفاعل الإيديولوجي في ترتيب المصالحة بين المتناهي واللاَّمتناهي بين الواعي واللاَّشعوري في إطار الواقع المتحدِّد في الزمان والمكان.
نستنتج من ما مرَّ، أن الكلمات ليس لها إلا معانٍ متحركة، ومؤقتة، ومتغيرة من عصر إلى عصر، ومن شعب إلى شعب. وعندما يريد الجهاز الأيديولوجي أن يدعو إلى خطب ما، أو أن يؤثِّر على الجمهور بواسطتها، فسينبغي عليه أولاً أن يعرف ما هو معناها بالنسبة له في لحظة معينة، وليس معناها في الماضي أو معناها بالنسبة لأفراد ذوي تكوين عقلي مختلف. ذلك أن الكلمات تعيش كالأفكار. فعندما تشعر الجماهير ـ بوصفها متلقية للرسالة ـ بنفور عميق من الصور التي تثير بعض الكلمات، وذلك على أثر الإنقلابات السياسية والمتغيرات التي أصابت العقائد، فإن الواجب الأول على رجل الدولة الحقيقي هو تغيير هذه الكلمات من دون أن يمس الأشياء ذاتها. أي جوهر القضايا التي وجب أن يعبّر عنها بكلمات جديدة.
ذلك أن جوهر القضايا الذي يُعاد إنتاجه هو نفسه اللاَّمتناهي، أو بالأحرى ذلك المتسامي الذي يفيض بروح العزيمة. فهذه القضايا كما يقول عالم الإجتماع الفرنسي غوستاف لوبون، مرتبطة بقوة التكوين الوراثي ولا يمكن تغييرها أو تحويلها (…) وإذن فإن إحدى المهام الأساسية لرجالات الدول هي أن يعمِّدوا بكلمات شعبية الأشياء التي لم تعد مستساغة من قبل الناس وهي تحت أسمائها وصفاتها القديمة. إن قوة الكلمات وتأثيرها من الضخامة بحيث أنه يتعيَّن على القادة أن يحسنوا اختيار الكلمات لكي يجعلوا الجماهير تقبل أخطر أنواع القضايا.
وينقل لوبون عن الفيلسوف تين بهذا الصدد قوله “إن اليعاقبة في الثورة الفرنسية، استطاعوا عن طريق رفع شعار الحرية والإخاء، وهما الكلمتان الأكثر شعبية آنذاك أن يفرضوا “نظاماً استبدادياً لا يقل بشاعة عن نظام داهومي، وأن ينصبوا محكمة مماثلة لمحاكم التفتيش، وأن يرتكبوا مذابح بشرية مشابهة لمذابح المكسيك القديمة” لهذا ـ يقول لوبون ـ إن براعة الحكام، كبراعة المحامين، تتمثل في معرفة كيفيات التلاعب بالكلمات. وإنه لفنٌ صعب. ذلك لأن الكلمات نفسها تمتلك في المجتمع نفسه معاني مختلفة بالنسبة للطبقات الاجتماعية المختلفة. فهذه الطبقات تستخدم ظاهرياً نفس الكلمات ولكنها لا تتكلم نفس اللغة.[1]
القضية الأيديولوجية إذاً، تبدأ من الكلمات المؤلِّفة للفكرة. وهذه الأخيرة هي نفسها التي ينطوي عليها الخطاب واستراتيجيته. ولذا فلن تكون الفكرة ذات جدوى ما لم تنطوِ على سحر ما. هذا السحر الذي من شأنه أن يفجر القوى الكامنة في نفوس حامليها. إن هذه الفكرة التي ستتحول تدريجياً إلى عقيدة ليست بالضرورة أن تكون حقيقية وواقعية لكي تكون ذات فعالية. ربما على العكس فكلما كانت مثالية أكثر كان لها تأثير أكبر. سنرى أنه بمجرد أن تدخل الفكرة نطاق “المأسسة” فسيتعرقل تهيؤها للتغيير. وبهذا تكون قد حكمت على نفسها بالضمور والابتراد.
لقد حرص غوستاف لوبون في كتابه “سيكولوجية الجماهير” على تأويل هذه الإشكالية في كثير من العمق حين رأى أن قوة الكلمات التي تؤلف الفكرة المعتقد بها، مرتبطة بالصور التي تثيرها، وهي مستقلة تماماً من معانيها الحقيقية. والكلمات التي يصعب تحديد معانيها بشكل دقيق هي التي تمتلك أحياناً قدرة على التأثير والفعل. مثال ذلك كلمات: ديمقراطية، اشتراكية، مساواة، حرية ألخ… فمعانيها من الغموض بحيث إننا نحتاج إلى مجلدات ضخمة لشرحها. ومع ذلك فإن حروفها تمتلك قوة سحرية بالفعل، كما لو أنها تحتوي على حل لكل المشاكل. فهي تجمع المطامحة اللاواعية المتنوعة وتركبها. كما وتحتوي على الأمل بتحقيقها.
أما العقل والمحاجّات العقلانية قد يمكنها أن تقاوم بعض الكلمات والصياغات التعبيرية؛ فما أن تلفظ بنوع من الخشوع أمام الجماهير حتى تعلو آيات الإحترام على الوجوه وتنحني الجباه لها. والكثيرون يعتبرونها بمثابة قوة من قوى الطبيعة، أو قوة خارقة للطبيعة. فهي تثير في النفوس صوراً مجيدة وغامضة، ولكن الغموض الذي يظللها يزيد من قوتها السحرية. ثم ينتهي لوبون إلى وصف أسطوري لذلك السحر الناجم من وقع وقوة الكلمات، فيقارنها ”بتلك الآلهة المرعبة المختبئة وراء خيمة لا يقترب منها الرجل الورع إلا ويرتجف مرتعشاً”.[2]
الأيديولوجي في رحلته السياسية
تنبسط السياسة تحت أقدام الأيديولوجي انبساط الأرض لحارثها. فإنها بالنسبة إليه تعني المنهج لكل ما هو فعلي. إن السياسة هي المنطقة الفضلى لكي يمارس الأيديولوجي فعليته الأيديولوجية. وفي هذه الوجهة يظهر الأيديولوجي كسياسي بامتياز. لكن هذا الظهور، لا يعني ـ كما قد يُظَن ـ أن الأيديولوجي مضى ليحل في النطاق السياسي. أي أنه انتقل من مكان إلى مكان، أو من شخصية إلى أخرى. الشخصية واحدة، وليس ثمة من مائز إلاَّ في الوظيفة التي تفترضها سياقات استخدام المعنى. ولسوف يتضح لنا بصورة مذهلة كيف تتمرأى وحدة الأيديولوجي / السياسي، كيف تتكثَّر في الوقت عينه.
فإذا كانت السياسة والأيديولوجيا حالين لحضورية واحدة، فلكل حال مراتب وألوان ومدارج. وهذه كلها متأتية من أصل واحد، هو الشغف الذي يُدخلها في سياق التوظيف. وحيث أن الأيديولوجيا واحدة في المفهوم، كثيرة الظهور في تحيزات الزمان والمكان، كذلك هي السياسة. بل إنها غالباً ما تكشف عن نفسها في الفضاءات الشاسعة للسياسة. فإن لأبي نصر الفارابي وهو يؤصِّل فلسفته المدنية أن يقرر بـ “أن السياسة ليست على الإطلاق جنساً لسائر أصناف السياسات، بل هي كالإسم المشترك لأشياء كثيرة تتفق فيه وتختلف في ذواتها وطبائعها، ولا شركة بين السياسة الفاضلة وبين سائر أصناف السياسات الجاهلية (…) وإنما قنَّن المتقدمون هذه السياسات الجاهلية لأن العلم إنما يُحفظ ويُضبط بالقوانين الكلية، وإن كان الموجود من سياسات الجاهلين كثيراً سياسات مركبة. لأن من عَرَفَ طبع سياسةٍ سياسةٍ أمكن أن يعرف السياسة الموجودة ممّاذا هي مركبة، ويحكم عليها بحسب ما يجد من تركيبها، وبحسب ما عرف من طبيعة كل صنفٍ من الأصناف البسيطة. وكذلك الحال في جميع الأشياء العملية، مثل الخطابة والسوفسطائية، والجدل، والصناعة الشعرية. فإن المستعمِل لها الذي ليس له علم بها وإنما يظنّ ويحسب أنه يستعمل البرهان، كثيراً ما يستعملها مختلطة اختلاطاً مختلفاً”.[3]
أما ابن رشد فقد كان على سيرة المعلم الثاني في النظر إلى السياسة على أرض التكثُّر المعنوي وفقاً لتحيّزاتها. لذا سيقرر وجود أربع سياسات هي: السياسة الجماعية، وسياسة الخسة، وسياسة جودة التسلُّط، وسياسة الوحدانية. وها هو يشرحها في ما يلي:
– السياسة الجماعية، هي السياسة التي تكون فيها الرئاسة بالاتفاق، إذ لا يكون لأحدٍ على أحدٍ فضل.
– سياسة الخسة، هي السياسة التي يتسلَّط فيها المتسلطون على المدنيين بغية جمع الثروة.
– سياسة جودة التسلط، هي السياسة التي يكون فيها التسلط عن طريق الأدب، والاقتداء بما توجبه السنة. والسلطان فيها للقانون وأحكامه، والنوع الذي به صلاح أهل المدينة والسعادة الإنسانية.
– أما ما يسميه ابن رشد بالسياسة الوحدانية فهي سياسة الرياسة التي لا يُنقِص السلطان منها شيء، بأن يشاركه غيره.
مع هذا فأنَّى تكثَّرت أحوال السياسة وألوانها، يبقى لكل حال أو لون منها، حزمة من الكلمات المأثورة، تبشِّر بها أو تبرر لها، أو تسعى لتضع للّحظة السياسية المحدَّدة نظاماً متعالياً من المشروعية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – غوستان لوبون ـ سيكولوجية الجماهير ـ ترجمة وتقديم هاشم صالح ـ دار الساقي ـ بيروت ـ لندن ـ 1991 ـ ص120
[2] – غوستان لوبون – المصدر نفسه- ص 116.
[3] – الفارابي – فصول منتزعة – تحقيق وتقديم وتعليق د. فوزي متري نجار – دار المشرق – بيروت ط 2 – 1993 – ص: 92 -93
معنى (كتب) في القرآن الكريم
الشيخ حسن المصطفوي
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
صفات الأيديولوجي؛ معاينة لرحلة الفاعل في ممارسة الأفكار (6)
محمود حيدر
ما الحيلة مع أقاويل النّاس؟
الشيخ علي رضا بناهيان
مناجاة الزاهدين(5): وَتَوَلَّ أُمُورَنَا بِحُسْنِ كِفَايَتِكَ
الشيخ محمد مصباح يزدي
إعداد المراهقين والمراهقات قبل مرحلة البلوغ يساعدهم على تجاوز الاضطرابات النفسية المصاحبة لها
عدنان الحاجي
معنى قوله تعالى: {إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ..}
الشيخ محمد صنقور
أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
في رحاب بقية الله: المهدي (عج) عِدْلُ القرآن
الشيخ معين دقيق العاملي
التّعاليم الصحيّة في القرآن الكريم
الشيخ جعفر السبحاني
أمّ البنين: ملاذ قلوب المشتاقين
حسين حسن آل جامع
الصّاعدون كثيرًا
حبيب المعاتيق
أيقونة في ذرى العرش
فريد عبد الله النمر
سأحمل للإنسان لهفته
عبدالله طاهر المعيبد
خارطةُ الحَنين
ناجي حرابة
هدهدة الأمّ في أذن الزّلزال
أحمد الرويعي
وقف الزّمان
حسين آل سهوان
سجود القيد في محراب العشق
أسمهان آل تراب
رَجْعٌ على جدار القصر
أحمد الماجد
خذني
علي النمر
معنى (كتب) في القرآن الكريم
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ
العلماء يكتشفون نوعًا جديدًا من موت الخلايا مرتبط بالنّحاس
صفات الأيديولوجي؛ معاينة لرحلة الفاعل في ممارسة الأفكار (6)
ما الحيلة مع أقاويل النّاس؟
الإكسير الأعظم
فعاليّة لجمعيّة تاروت الخيريّة بمناسبة اليوم العالميّ لذوي الإعاقة
وَلَا تَجَسَّسُوا
معنى (حصب) في القرآن الكريم
من أعظم المنجيات