حيدر حب الله
الاتجاه الثالث: الاتجاه الوحياني بالحدّ الأدنى
يقع هذا الاتجاه في مقابل الاتجاه الأوّل تماماً، حيث يعتبر العقلَ هو المعيار والمصدر الوحيد للمعرفة، أمّا الوحي فليس مصدراً معرفيّاً يمكن من خلاله الوصول إلى حقيقة موضوعيّة، انطلاقاً من رؤية وضعيّة للعلم.
ثمّة ـ كما نعرف ـ فلسفة كبيرة في الغرب تُسمّى بالفلسفة الوضعيّة (Positivism)، وهي التي تعتبر أنّ معيار القضية العلميّة كونها قابلةً للاختبار والتجربة والمحاسبة، فإذا لم نستطع أن نتأكّد من صحّة قضيّةٍ ما من خلال التجربة فهذه ليست قضيّة علميّة أساساً، وحتى العلوم الإنسانيّة لم تسلم من نقد هذه النزعة، إذ سُلبت عنها صفة العلم إن لم تخضع لهذا المعيار، لتعتبر مجرّد كلمات تطلق في الهواء الطلق، وما عُرف بحلقة فيينا كانت تنتصر لهذه الفكرة، ولذلك شاع اليوم اطلاق مصطلح العلوم (Science) على العلوم الطبيعيّة، أي العلوم التي تستند إلى التجربة تأثراً بهذه المدرسة، في مقابل المعارف الإنسانية التي قد يُرغب في إطلاق تعبير (Knowledge) عليها، وقد بدأت هذه المدرسة منذ سنة 1967م بالتراجع، وكتبت كتبٌ كثيرة تحت عنوان «ضدّ المنهج» في نقدها.
ليست قيمة الدين ـ عند أنصار هذا الاتجاه ـ في إعطاء معلومات جديدة للإنسان، وإنّما قيمته ـ لو كانت له قيمة ـ في تحريك وتشجيع البشريّة نحو الخيرات، تماماً كما هي الحال فيما يقوم به مشجّعو كرة القدم في الملعب، حيث لا يراد منهم إعطاء معلومات جديدة للاعبين، وإنّما خلق دافع داخلي وطاقة إيجابيّة دافعة عبر التصفيق أو الضرب على الطبول والنواقيس أو غير ذلك، وكأنهم يقدّمون بفعلهم هذا طاقة هائلة للاعبين نحو النجاح والتقدّم، بل وبحسب تعبير بعضهم: إنّ الدين ليس سوى (طبل) للحماس، فعندما يأتي الوحي فكأنّه يشحن الإنسان بطاقةٍ هائلة تجعله يمارس الصدق ويترك الكذب ويتحرّك نحو فعل الخير ويترك مساوئ الأخلاق وهكذا، فقيمة الوحي في أنّه يحرّك الإنسان نحو الخير ويُبعده عن الشرّ، وليست قيمته في إعطاء معلومات ومراكمة علوم لديه، وإنّما الذي يعطي العلم للإنسان ليس سوى العقل، ولهذا يجب أن نرجع إليه فقط لاكتساب المعلومات، وبهذا لن يكون هناك أيّ تعارض بين العقل والوحي؛ لأنّ لكلّ منهما مساحته المباينة لمساحة عمل الآخر، فلا يتدخّل العقل في مجال الوحي وبالعكس، ومن هنا يعتبر هذا الاتجاه أنّ جميع الكتب الدينيّة الموجودة بين أيدينا اليوم، لا ينبغي أن تكون مرجعاً في التاريخ أو المستقبل أو في أيّ حقيقة أخرى.
الاتجاه الرابع: الاتجاه الوسطي الداخل ـ ديني
وسط هذه المعمعة، ظهر اتجاهٌ يمكن أن نعتبره وسطياً دون أن نقصد بهذا التوصيف منحه قيمة واعتباراً، وهو الاتجاه الذي مال إليه الكثير من علماء المسلمين، وقدّموا فيه قراءات مختلفة.
لقد حاول هذا الاتجاه الوسطي الداخل ـ ديني أن يفكّر بطريقة أخرى، فاعتبر أنّ العقل مصدرٌ معرفي كما الوحي مصدر معرفي آتٍ من السماء ومن لدن حكيم عليم، فكلاهما مصدر للوصول إلى المعرفة والحقيقة، وهذا هو الركن الركين عندهم، دون فرض حدود لهذه المصدريّة لا على العقل ولا على الوحي. فإذا تعارض العقل والوحي فما الذي يجب علينا أن نفعله؟
يجيب هذا الاتجاه، بأنّ الذي اعتبرتموه تعارضاً بين العقل والوحي، ليس تعارضاً بينهما، وإنّما هو تعارضٌ بين العقل وفهم النصوص الدينيّة؛ لأنّ الوحي في الحقيقة علاقة بين النبيّ وعالم الغيب، الأمر الذي لا طريق لنا للوصول إليه إلا عبر الكتاب الكريم والنصوص التاريخيّة والروايات الحديثيّة، فنحن نتعامل مع نتيجة الوحي لا مع الوحي نفسه، ومن ثمّ فالتعارض القائم ليس بين الوحي والعقل، وإنّما بين النصوص والعقل، وبما أنّ النصوصَ في أغلبها غير يقينيّةٍ ـ إن في صدورها، أو في دلالتها أو كليهما معاً ـ فيقدَّمُ حكمُ العقل القاطع على النصّ؛ لأنّه يقيني، وإذا كان التعارض بين دلالة النصوص والعقل فيجب أن نفسّر النص بطريقة تنسجم مع العقل، وبهذا نوقع التوفيق بينهما، ليُصبح العقلُ والنص منسجمين مع بعضهما بعضاً، فليس هذا تقديماً للعقل على النص أو الوحي، وإنّما هو تفسيرٌ للنصّ بالعقل. هذا هو التخريج أو التكييف الذي قدّموه لفضّ الاشتباك بين العقل والوحي.
من أدوات فضّ الاشتباك مع النصّ
لكنّ السؤال المهمّ هنا هو أنّه كيف يمكن الجمع بين الفهم العرفي واللغوي للنصوص وهذا التخريج؟ أليس هذا تلاعباً بالنص وليَّاً لعنقه؟
هذا السؤال لم يمرّ مرور الكرام على الفكر الديني، لهذا أثيرت حول قضيّته أفكار عديدة، وأكتفي هنا بذكر اثنين أساسيّين منها:
1 ـ نظريّة المجاز
وهي ما ذهب إليه أمثال المعتزلة والإماميّة في التاريخ الإسلامي، من أنّ اللغة في حدّ نفسها تبتني على المجاز، فاستخدام الكلمات والجمل المجازية والاستعاريّة والكنائية في اللغة متناسبٌ مع النظام اللغوي وليس مخالفاً له كي نعتبره تلاعباً بالنصوص، فإذا قال تعالى: ﴿..يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ..﴾ (الفتح: 10) فهو يشبِّه قدرة الله باليد، فيقول: يد الله، ولكنّه يقصد قدرته سبحانه، إذاً لم يعد يُوجد تنافٍ بين العقل الذي يقول باستحالة التجسيم على الله وبين النصّ؛ لأنّ بنية اللغة هي بنية قائمة على المجاز؛ ومن ثمّ يمكن التعامل بأريحيّة معها.
وبهذا تكون هذه الفكرة قد حاولت أن توفّق بين العقل والنصّ، بجعل العقل دليلاً على تفسير النصّ وهادياً، اعتماداً على نظام اللغة القائم على المجاز.
2 ـ نظريّة روح المعاني
ذهب بعض العرفاء ـ مع اعتقادهم بأصل المجاز ـ إلى شيءٍ أعمق منه يُلامس البنية التحتيّة للغة، وهو ما سُمّي فيما بعد بنظريّة روح المعاني، وقد شرحناها بالتفصيل في دروسنا التفسيريّة.
يعتقد العديد من أنصار المنهج العرفاني ـ خاصّة مع ابن عربي (638هـ) ـ أنّ الألفاظ لا توضع للمعاني الظاهريّة، وإنّما توضع لروح المعاني، فما نعتبره معنىً للألفاظ ليس إلا مصداقاً ظاهريّاً من المصاديق الكثيرة للمعنى، وبهذه الطريقة يمكن التوسّع في فهم النصوص.
ومن الأمثلة الشائعة لهذه النظريّة مفردة «الميزان»، في مثل قوله تعالى: ﴿ونَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ (الأنبياء: 47)، فالميزان هنا ليس بمعنى الآلة التي نستخدمها في الأسواق لوزن بعض السلع أو البضائع أو المأكولات، بل المقصود منها في روحها اللغويّة: مطلق ما تقدَّر به الأشياء، وبهذا يصبح المراد من الآية الكريمة أنّ الله تبارك وتعالى سوف يقدِّر أعمال العباد يوم القيامة، لا أنّه سوف يقوم بوضع موازين تشبه الموازين الموجودة في الأسواق.
وسبب انصراف أذهاننا إلى تلك الآلة المستخدمة في الأسواق، ليس إلا كثرة تعاملنا معها، وإلا فنفس كلمة الميزان في روحها اللغويّة لا تعني تلك الآلة، وإنما الآلة بعينها مصداق من مصاديق المعنى.
وكذلك الحال في مثل قوله تعالى: ﴿..يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ..﴾ (الفتح: 10)، إذ ليس المقصود تلك اليد العضويّة، بل إنّ «اليد» في روحها اللغويّة وُضعت لتعني الشيء الذي يُقتدر به، فيد الإنسان تعني ما يقتدر الإنسان به، وعندما نقول: يد الله، فهذا يعني الشيء الذي يمارس الله من خلاله قدرة إدارة شؤون العالم، وإنّما انصرف ذهننا إلى اليد العضويّة لكونها المصداق الأبرز الذي نحتكّ به، لا لكونها المعنى الموضوع لكلمة اليد في اللغة، وهذا يعني أنّه يمكننا ـ بهذه النظرية ـ استيعاب النتائج العقليّة في فهم النصوص، وفضّ الاشتباكات بينها وبين المعطيات العقليّة والعلميّة.
لقد فسّر العديدُ من العرفاء الكثيرَ من الآيات القرآنية بهذه الطريقة، فخلقوا لها معاني متعدّدة، وقد اختار هذه النظريّة ـ بعد ابن عربي ـ الملا صدرا الشيرازي (1050هـ)، ثم انتصر لها وطبّقها العلامة الطباطبايي (1981م) في تفسيره «الميزان في تفسير القرآن»، وكذلك الإمام الخميني (1989م) في غير موضع.
النتيجة
إنّ العلاقة بين العقل والوحي مسألةٌ لطالما أقلقت الكثير من العلماء عبر التاريخ، فذهبوا فيها مذاهب متنوّعة، مستهدفين فضّ الاشتباك:
أ ـ ففيما أنكر بعضٌ قدرة العقل على فهم الحقائق التي يقدّمها الوحي بل مطلقاً.
ب ـ اختار فريقٌ آخر منح العقل دوراً تمهيديّاً سابقاً على ثبوت الوحي، ليغلق الباب أمامه عقب ذلك، ولتحلّ النبوّة والإمامة مكان العقل في كشف الحقيقة.
ج ـ وانتهج فريقٌ ثالث نهج إنكار الوحي مصدراً معرفيّاً ليحصره في كونه فاعلاً تربويّاً وإنسانيّاً.
د ـ أمّا الفريق الرابع هنا، فقد غيّر وجهة التنازع ليجعلها بين النصوص والعقل، لا بين الوحي والعقل، ومن ثم صار العقلُ مفسِّراً للنصّ، عبر أنظمة لغويّة أو غيرها تذلّل من العقبات أمام عمليّة التوفيق.
هذا عرض تمهيدي موجز يدفعنا للتفكير وبذل المزيد من الجهود لدراسة موضوع العلاقة بين الدين والعقل أو الدين والعلم، وأنصح أخيراً بمطالعة كتاب العلم والدين، للباحث والمفكّر الأميركي إيان بربور (2013م)، ففيه عرض معمّق لرحلة معرفيّة واسعة في علاقة العلم والدين، تطلّ من زوايا أخرى على هذا الموضوع.
الشيخ محمد الريشهري
الدكتور محمد حسين علي الصغير
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ محمد مصباح يزدي
الشيخ محمد جواد البلاغي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد عبد الأعلى السبزواري
محمود حيدر
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
العقيدة، المعنى والدور
المرتدون في زمن النبي (ص)
طبيعة الفهم الاستشراقي للقرآن (1)
حين تصبح المرأة المثيرة هي القدوة، ما الذي جرى وكيف تُصنع الهوية؟
الحب في اللّه
العرفان الإسلامي
جمعية العطاء تختتم مشروعها (إشارة وتواصل) بعد 9 أسابيع
الرؤية القرآنية عن الحرب في ضوء النظام التكويني (2)
قول الإماميّة بعدم النّقيصة في القرآن
معنى كون اللَّه سميعًا بصيرًا