السيد منير الخباز
هناك مدرستان منذ القدم في نظرية المعرفة:
1. المدرسة الحسية: وهي تمتّد من عهد الإغريق، ومن جملة روّادها: دمقريطس وأبيقور، اللذين كانا يقرّران أنَّ المصدر الوحيد للمعرفة هو الحس، وأنّ المعرفة إنما تحصل عبر نفوذ ذرات الأشياء الموجودة إلى الدماغ وارتسام صورها في صفحته، وقد امتدت المدرسة الحسّية إلى العصر الحاضر ممثلةً في جون لوك وديفيد هيوم وغيرهما من أركان هذه المدرسة.
2. المدرسة العقلية: وهي التي ترى أنَّ المصدر الوحيد للمعرفة هو العقل، وهي أيضًا موجودة منذ القدم، حيث تمّثلت في أرسطو والمشائين إلى ديكارت ثم إلى بعض الفلاسفة المسلمين.
ويمكن مراجعة كتاب «الفلسفة الحديثة من ديكارت إلى هيوم» لمؤلفه إبراهيم مصطفى إبراهيم، حيث شرح فيه التسلسل التاريخي لهاتين المدرستين، ولكن ما يهمّنا في المقام فعلًا هو بيان الفوارق الجوهرية بين هذين المذهبين الفكريين.
الفارق الأول: وجود المبادئ الفطرية القبلية.
هل توجد لدى الإنسان معارف قبلية مغروسة في فطرته قبل أن يقوم بالإحساس والتجربة، أم لا؟ وبيان هذا الفارق الجوهري بين المدرستين يتوقّف على بيان أربعة مبادئ نتداولها في معارفنا الإسلامية والحوزوية:
المبدأ الأول: الهوية.
وقد يعبَّر عنه بالذاتية، بمعنى أنَّ «كل شيء هو هو، وما ليس هو فليس هو»، وهذا المبدأ - الذي نتداوله في مقام الاستدلال والنقد والمناقشة - يعتمد على ركنين:
أ. الركن الأوّل: إنّ لكلّ شيء تقرّرًا ثابتًا، إذ لو لم يكن للشيء معنى ثابت لم يكن معنى لقولنا: «كل شيء هو».
ب. الركن الثاني: إنَّ هذا الشيء الذي له معنى ثابت لو وُجِد فإنَّ الذي يوجد هو وليس غيره، فهو في في وجوده لا يلتبس بغيره، فالإنسان مثلًا له معنى ثابت، وإذا وُجِد فيوجد بنفس معناه ولا يختلط بغيره.
المبدأ الثاني: مبدأ الوسط الممنوع.
وهو ما يعبَّر عنه في اصطلاح الحوزة بمبدأ عدم التناقض، بمعنى أنَّ النقيضين لا يجتمعان، فلا يمكن أن يكون الشيء موجودًا ولاموجود في آنٍ واحد، فهذا المبدأ يعبّر عنه الفلاسفة المحدثون بالوسط الممنوع.
وهناك خلاف بين المناطقة في أنَّ المبدأ الأول هل هو الهوية ويتفرع عليه مبدأ عدم التناقض، أم العكس؟ إذ هناك من يقول بأنَّ المبدأ الأول الأساس لكل المبادئ هو مبدأ الهوية، فلو لم نؤمن بأن الشيء هو هو لما آمنا بأن ما كان هو لا يمكن أن يكون ليس هو، وهذا يعني أنَّ مبدأ عدم التناقض - وهو أنَّ الشيء لا يمكن أن يكون هو وليس هو - فرع أن يكون للشيء هوية في حدّ ذاته.
ولكن هناك من يرى أنَّ مبدأ عدم التناقض سابق على مبدأ الهوية، فلا يمكن أن نقرّر بأنّ «كل شيء هو هو وما ليس هو فليس هو» إلا إذا آمنا مسبقًا بأنه لا يمكن أن يجتمع النقيضان.
المبدأ الثالث: الثالث المرفوع.
وهو مبدأ استحالة ارتفاع النقيضين، فلا يمكن أن تخلو صفحة الواقع من الوجود والعدم، وإذا لم يخلُ الواقع منهما فليس هنالك ثالثٌ لهما، ولذلك يعبَّر عنه بمبدأ الثالث المرفوع.
وهذا المبدأ متفرع على مبدأ استحالة اجتماع النقيضين، إذ لو ارتفع الوجود وارتفع اللاوجود لاجتمع النقيضان، فإذا قلنا بأنه يمكن أن يخلو الواقع من الوجود والعدم فإنّه في هذا الفرض - فرض الخلو - يجتمع الوجود واللاوجود، وهو مستحيل لمبدأ استحالة اجتماع النقيضين.
المبدأ الرابع: مبدأ السببية.
وهو أنَّ لكل مسبّب سببًا.
فهذه المبادئ الأربعة يقرّر المذهب العقلي أنها مبادئ قبلية، أي: سابقة على التجربة، والدليل على ذلك أنها متصفة بوصفين لا يمكن أخذهما من التجربة، وهما: الضرورة، والكلية.
الوصف الأول: الضرورة.
من الواضح أنَّ المبادئ الأربعة ضرورية، إذ يمتنع اجتماع النقيضين بالضرورة، ولكل حادث سبب بالضرورة، ولو كان منشأ هذه المبادئ هو التجربة لم نعلم أنها ضرورة، لأنَّ التجارب الحسية تثبت لنا أصل الشيء، ولكنها لا تثبت اللابدية والضرورة، وعلى ذلك فاتصاف هذه المبادئ بأنها ضرورة معناه أنها لم تأتِ من التجربة، وإنما أتت من مصدر قبلي سابق على التجربة.
الوصف الثاني: الكلية.
فاجتماع النقيضين ممتنعٌ في جميع الأحوال والظروف، ولكل حادث سبب في جميع الأحوال والظروف، ولو اعتمدنا في معرفة هذه المبادئ على التجربة لم نستفد أنها كلية، لأن التجربة محدودة النطاق.
إذن فالمذهب العقلي يؤكِّد على أنّنا نرى بوجداننا أربعة مبادئ تتصف بالضرورة والكلية، وهذا يعني أنَّ هناك مبادئ قبلية سابقة على التجربة مغروسة في الفطرة.
موقف المذهب التجريبي من هذه المبادئ الأربعة:
في مقابل ما يطرحه المذهب العقلي، يقول أصحاب الفلسفة الحسّية: نحن لا نؤمن بوجود شيء اسمه «ضرورة» ولا بوجود شيء اسمه «كلية»، بل ليس عندنا معلومة كلية ولا معلومة ضرورية أبدًا، وما يعبِّر عنه المذهب العقلي بالمبادئ القبلية هي في الحقيقة منتزعة من الحسّ والتجربة.
فمثلًا: مبدأ الهوية مأخوذٌ من الإحساس؛ لأنَّ الحس لم يأتِ لنا يومًا من الأيام بشيء هو حار وهو بارد، ولا بشيء هو قبيح وهو جميل، ولا بشيء هو نهار وهو ليل، فلأنّ الحس لم يأتِ بصورة تجمع وصفين لذلك قلنا: هناك شيء اسمه الهوية، فالشيء هو هو وليس غيره بناءً على المعطيات الحسّية.
وأمّا بالنسبة لمبدأ العلية - بمعنى أنّ لكل مسبّب سببًا - فيقولون: إنَّ التجربة الحسية تثبت لنا التتابع فقط، بمعنى أنّنا نرى النار ونرى بعدها إفاضة الحرارة، أو نرى بعدها احتراق الجسم، فالتجربة الحسية تثبت أنّ هذه الظواهر متتابعة فقط، ولا نستطيع أن نقرّر أكثر من التتابع استنادًا إلى المعرفة التجريبية، وأمّا وجود شيء وراء هذا التتابع اسمه العلية - بمعنى أنّ في النار علية للحرارة والإحراق - فهذا لا نستطيع أن نثبته، ولذا فهم لا يؤمنون بالضرورة ولا بالكلية ولا بالمبادئ الأربعة القبلية، وهذا فارق جوهري بين المدرستين.
الفارق الثاني: طبيعة الاستدلال.
يمكن الرجوع إلى كتاب «مدخل جديد إلى الفلسفة» لمؤلفه عبد الرحيم بدوي، فقد تحدّث فيه عن الفوارق بين المدرستين، ومنها: الفرق بينهما في طريقة الاستدلال على صحّة المنهج.
وعندما نأتي للمذهب الحسّي، نجد أصحابه - كديفيد هيوم - يقولون: إنَّ الدليل على أنَّ المصدر الوحيد للمعرفة هو الحس والتجربة، هو أنَّ الإنسان كلما فقد حاسة فقد نوعًا من المعلومات، فالمبصرات يفقدها إذا فقد البصر، والمسموعات يفقدها إذا فقد السمع، وهكذا، فلو فرضنا أنّ إنسانًا وُلِد وهو فاقد لجميع الحواس فإنَّ هذا الإنسان الفاقد لن يستطيع أن يقرّر أي معلومات، بل سيكون دماغه مجرّد صفحة بيضاء خالية، فما لم يكن عنده إحساس لن يكون لديه منفذٌ للوصول إلى أيّ معلومة من المعلومات.
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد محمد باقر الصدر
السيد محمد باقر الحكيم
الشيخ باقر القرشي
الشيخ محمد مصباح يزدي
الدكتور محمد حسين علي الصغير
عدنان الحاجي
الشيخ محمد الريشهري
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان