... ثمّ إنّ هذا الاقتضاء من الذات لعوارضه مقرونة في الإنسان بالعلم، فهذا النوع يميّز الملائم عن غير الملائم بالعلم والإدراك، ثمّ يحرّك وينحو نحو الملائم، ويهرب عن المنافر المنافي، وبعض الأنواع الأخر من الحيوان أيضًا، حاله حال الإنسان، ولسنا نعلم هل حال كلّ نوع من الموجودات الجسمانيّة حال الإنسان لعدم وفاء الحسّ والتجارب، وإن قام بعض البراهين في العلم الإلهي على أنّ العلم سار في جميع الموجودات.
وبالجملة حيث كان تميّز الملائم عن غيره بالعلم والذات مقتض للملائم، ومتأبّ عن غير الملائم، والحركة إلى الملائم عن إرادة وعلم، والحركة عن غير الملائم عن إرادة وعلم، تحقّق هناك بالضرورة بالنسبة إلى الملائم صورة علميّة ذهنيّة مخصوصة. وبالنسبة إلى غير الملائم صورة أخرى مخصوصة، وهما صورة اقتضاء الذات لأمر وصورة تأباها عن أمر، فللاقتضاء صورة وهي وجوب الفعل في قولنا: يجب أن يفعل كذا انتزعتها النفس عن نسبة الضرورة في القضايا الحقيقيّة الخارجيّة، ولعدم الاقتضاء صورة، وهي حرمة الفعل أو وجوب عدمها في قولنا يحرم أو يجب أن لا يفعل كذا، انتزعتها النفس عن نسبة الامتناع في القضايا الحقيقيّة الخارجيّة، وللمقتضى بالبناء للمفعول صورة، ولعدم المقتضى المتأبّى عنه بالبناء للمفعول صورة أخرى، والظاهر أنّ النفس تنتزعها فيهما من نسبة بعض أجزاء الشخص بالنسبة إليه، أو شخصه بالنسبة إلى شخصه. ومن نسبة عدم شخصه أو عدم بعض أجزاء شخصه بالنسبة إلى شخصه، وهذا هو الذي يوجب الحركة إليه أو الهرب منه.
وهذا المقدار من الاعتبار كالمادة الأولى بالنسبة إلى الاعتبارات التالية قاطبة، ويسري هذا الحكم ويتكثّر أقسام الاعتبار، ويختلف بتكثّر حوائج الإنسان واستقباله النواقص التي تصادف ذاته، ويمكنك التحقّق بما ذكرنا واختبار الحال في ذلك بالتدبّر في حال الطفل الإنساني وتدرّجه في الحياة، وكذلك باختيار حال بعض الحيوان ممّا في نوعه الاجتماع محدود ساذج، والتميّز في أوهامه سهل يسير.
ثمّ إنّ الإنسان الفرد لا يتمّ له وحده جميع كمالاته الملائمة لذاته؛ لكونه في جميع جهات ذاته محتاجَا إلى التكامل. وتفنّن احتياجاته الحيويّة مع احتفاف كلّ واحد من كمالاته بما لا يحصى من الآفات، ولذلك فهو بالفطرة مضطرّ إلى الاجتماع والتعاون والتمدّن مع أمثاله والحياة فيهم، حتّى يقوم كلّ فرد بجهة أو جهات معدودة من خصوصيّات كمالاتهم بما يسعه طاقته، ويعيشوا بنحو الاشتراك، وههنا وقعت الحاجة إلى التفهيم والتفهّم، فابتدأ ذلك بالإشارة، ثمّ كمل بالصوت، ثمّ تمّم ذلك بتمييز الأصوات المختلفة للمقاصد المختلفة.
والدليل عليه ما نشاهده في الحيوانات العجم، فإنّ فيها دلالة على المقاصد بالأصوات وتعدادها كثرة وقلّة بالنسبة إلى اجتماعاتها كصوت الزاغ، وصوت الفساد، وصوت التربية وصوت الإشفاق وغير ذلك ممّا بينها، وهذا الأمر يكتمل ثمّ يكتمل حتّى يصير اللفظ وجودًا لفظيًّا للمعنى لا يلتفت عند استماعه إلّا إلى المعنى، ويسري الحسن والقبح من أحدهما إلى الآخر.
ثمّ إنّ اشتراك المساعي في الحياة واختصاص كلّ فرد بما يهيّئه يوجب اعتبار الملك في المختصّات، وأصله الاختصاص، وكذا اعتبار الزوجيّة، واحتياج الكلّ إلى ما في أيدي الآخرين، يوجب اعتبار التبديل في الملك والمعاملات المتنوّعة من البيع والشراء والإجارة وغيرها، وحفظ النسبة بين الأشياء القابلة للتبديل من حيث القلّة والكثرة والابتذال والعزّة، وغير ذلك يوجب اعتبار الفلوس والدراهم، وهو شيء يحتفظ به نسبة الأشياء القابلة للتبديل بعضها مع بعض.
ثمّ إنّ هذه التقلّبات غير المحصورة لا تخلو من وقائع جزئيّة معتدلة وأخرى يقع فيها الظلم والتعدّي والإجحاف، فالأفراد في أخلاقها مختلفة، والطبائع إلى التعدّي وتخصيص المنافع بنفسها ومزاحمة غيرها مجبولة، وحينئذاك وقع الاحتياج إلى قوانين يحفظ بها الاعتدال في الاجتماع، وإلى من يحفظ هذه القوانين، وإلى من يعتضد به، فينشعب إذ ذاك اعتبار الرئاسة والرئيس والمرؤوس والقانون وغير ذلك.
ويتفرّع على ذلك اعتبارات أخر، ولا يزال يتبع بعضها بعضًا حتّى ينتهي إلى غايات بعيدة طوينا الكلام عن شرحها لعدم وفاء المقام بذلك.
وبالجملة، فهذه الاعتبارات لا تزال تتكثّر بكثرة مسيس الحاجة حتّى تنفذ وتسرى في جميع جزئيّات الأمور المربوطة بالإنسان الاجتماعي وكلّياتها، ويتلوّن الجميع بهذه الألوان الوهميّة، وتتلبس بهذه الملابس الخياليّة، بحيث أنّ الإنسان الذي يتقلّب بينها بواسطة الإدراك، ويقصدها ويتركها، ويحبّها ويكرهها، ويرغب فيها وينفر عنها، ويرجوها ويخاف منها، ويشتاقها ويعافها، ويلتذّ بها ويتألّم منها، ويختارها ويتركها بالحسن والقبح، والوجوب والحرمة، والنفع والضر ، والخير والشرّ، بواسطة العلم والإرادة لا يشهد منها إلّا هذه المعاني السرابيّة، ولا يحسّ منها إلّا بهذه الوجوه. فحياة الإنسان وهي حياة اجتماعيّة مربوطة بهذه الأسباب، محدودة بهذه الجهات، متقلّبة في هذه العرصات، لو وقعت حينًا ما في خارجها كالحيتان خارج المياه، بطلت وخمدت.
وأنت إذا أجلت النظر، وأدرت الفكر في بعض الموجودات ونظامها الطبيعي، كالمركّبات النباتيّة مثلاً، رأيت استمرار حياتها في إدامة بقائها يدور على التغذية والنموّ، وتوليد المثل، ورأيت ذاتها يفعل هذه الأفعال باقتضاء من نفسه من غير استعانة بالخارج عنه، ويتمّم ويستكمل هذه الجهات بأفعال وانفعالات ذاتيّة طبيعيّة بجذب ودفع، ويديم بها أمره حتّى ينتهي إلى البطلان ونظامه نظام طبيعي غير متوسّط غيره في جريانه، وإذا رجعت إلى الإنسان وجدت هذا النظام الطبيعي منه محفوفًا بمعان ليس لها وجود في الخارج، وهميّة باطلة لا يحسّ الإنسان إلّا بها، ولا يماسّ الأمور الطبيعيّة إلّا من وراء حجابها، فالإنسان لا يريد ولا يروم في دائرة حياته إلّا إيّاها، ولا ينسج إلّا بمنوالها، لكنّ الواقع من الأمر حين ما يقع هو الأمور الحقيقيّة الخارجيّة.
هذا حال الإنسان في نشأة المادة والطبيعة من التعلّق التامّ بمعان وهميّة سرابيّة هي المتوسّطة بين ذاته الخالية عن الكمالات وبين الكمالات الطارئة اللاحقة بذاته.
السيد جعفر مرتضى
السيد محمد حسين الطهراني
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ جعفر السبحاني
محمود حيدر
الدكتور محمد حسين علي الصغير
عدنان الحاجي
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
لماذا ولد الإمام علي (ع) في الكعبة
لَا يَمَسُّهُ إلَّا المطَهَّرُونَ
العطاء في حياة الإمام علي عليه السلام
كيف يسهم القدوة في صياغة شخصيّة الإنسان؟
مزعومة الأشعري في الإلجاء
صور علومنا الذهنيّة (2)
دنيا عليّ عليه السّلام (2)
حاء وباء على باب علي
مبدأ التّشيّع وتاريخ نشأته
السر المفقود للنهوض بالمجتمع