قرآنيات

الشيخ حسن المطوع: من معاني الإنفاق في سورة الحديد

 الشيخ حسن المطوع

 

آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) )صدق الله العلي العظيم(. (سورة الحديد)

 

الآيات المباركات من الآية السابعة إلى الآية الحادية عشرة، عنوانها وموضوعها هو الإيمان بالله سبحانه وتعالى والإنفاق. هذا هو موضوع الآيات المباركات لهذا اليوم. بدأت الآيات المباركات من قوله سبحانه وتعالى: "آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ". الآية بدأت بقوله تعالى: "آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ". هنا الخطاب لمن آمنوا بالله ورسوله. الخطاب هنا عام لجميع البشر للمؤمنين وللكافر. أما المؤمن فالخطاب له: آمنوا بالله ورسوله يعني ازدادوا في إيمانكم بالله والرسول. وأما الخطاب إذا كان للكافرين، فابتداء: آمنوا بالله ورسوله واتركوا عنكم الشرك بالله والكفر به. ثم قالت الآية المباركة: "وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ". أثنت بعد الإيمان بالله والرسول على الإنفاق وربطت بين الإنفاق والإيمان بالله سبحانه وتعالى. هنا نكتة قرآنية، وهي أنها وصفت الإنفاق في سبيل الله مما جعله الله سبحانه وتعالى مستخلفًا أنت فيه. ما معنى ذلك؟ لاحظوا أيها الأحبة أن كل ما نملك، و(ما) هنا عامة وليست فقط مقتصرة على المال. حينما يقرأها القارئ قد يقول: "وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ"، يعني المال. المال جزء من الإنفاق، نوع من أنواع الإنفاق وليس كل الإنفاق. لاحظوا في القرآن الكريم حينما يتحدث عن الإنفاق بصورته العامة ويتحدث عن التصدق بصورته العامة، فلا يقصد به خصوص الإنفاق بالمال أو التصدق بالمال، وإنما الإنفاق من كل ما أنعم الله به عليه هذا الإنسان. فالمال نعمة تنفق منه وتتصدق به، كذلك إذا رزقك الله العلم، فتنفق من هذا العلم بأن تعلمه لأهله وتتصدق به. إذا الله رزقك ماذا؟ رزقك الصحة، رزقك الولد، رزقك كل هذه النعم التي حواليك، أنت تنفق منها وكل شيء وشأنه. "وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ". النكتة هنا هي، يعني النكتة المطلب العلمي أو المطلب القرآني هو أنه وصفه بالمستخلف. يعني ماذا؟ يعني المال مثلاً الذي أعطاني الله إياه، لست أنا المالك له، وإنما أنا مستخلف عليه بمعنى أن المال أمانة عندي، ولست أنا المالك الحقيقي. فإذا لم أكن أنا المالك الحقيقي له في هذه الحالة إذا كان المالك هو الله وقال: أنفق من هذا المال، أقول له: سمعًا وطاعة لأنني أمين على المال. فهذا معنى مستخلفين فيه.

 

ثم قال الله تعالى: "فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ". هنا تشويق بعد ذكر طلب الإيمان والإنفاق يقول: أيها الناس الذي يؤمن بالله منكم وينفق، له أجر، وأي أجر؟ أجر كبير، يعني ما في شيء يضيع عند الله سبحانه وتعالى. أنت أي شيء تقدمه في سبيل الله محفوظ لك، يعود لك أجر كبير. وهذا أسلوب من التشويق في القرآن الكريم. ثم تتابع الآيات المباركة بأسلوب، بعد أن طرحت الآيات الإيمان بالله والإنفاق في سبيل الله، وأيضًا شوقت إلى الإنفاق والإيمان، جاءت في الآية التي تليها جاء القرآن بأسلوب توبيخي لمن تباطأ أو لم يؤمن. هذا الأسلوب التوبيخي يأتي في هذا الاستفهام. قال تعالى: "وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ"، يعني وينكم أنتم عن هذا المطلب، هذا الأمر؟ وطبعًا الاستفهام عندنا في البلاغة الأصل في الاستفهام السؤال عن الشيء المجهول، ولكن يأتي لأغراض بلاغية، وهذا من الأغراض البلاغية، ظاهره استفهام ولكن المراد منه غرض آخر وهو التوبيخ والإنكار: "وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ"، أخذ ميثاقكم! أخذ ميثاقكم من المقصود؟ من الذي أخذ؟ الضمير يعود على من؟ هل يعود على الله؟ أم يعود على الرسول؟ منهم من قال إن الضمير أخذ يعود على الله سبحانه وتعالى، فإذا كان يعود على الله يعني أخذ الله ميثاقكم. طيب ما هو هذا الميثاق؟ الميثاق فيه رأيان، رأي قال إن الميثاق المقصود به هو الفطرة السليمة التي أودعها الله سبحانه وتعالى في كينونتنا في نفوسنا. هذه الفطرة تأخذ بالإنسان إلى الطريق الصحيح، وهو خير ميثاق من الله سبحانه وتعالى. وبعضهم قال الميثاق المقصود به هو عالم الذر: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ" يسمى هذا عالم الذر أو عالم الميثاق أو يسمى عالم الطينة التي في ذلك العالم الله أخذ الميثاق منا جميعًا، ماذا؟ أن نكون عابدين له طائعين له. إذا كان أخذ الميثاق (أخذه) هو تعود على الرسول، فيكون المعنى أن أخذ الرسول الميثاق عليكم بأن تؤمنوا بالله وتطيعوا الرسول فيما يقول. يعني حينما جئتم لتؤمنوا بالله، الرسول أخذ عليكم هذا الميثاق فاثبتوا على هذا الميثاق. ثم قالت الآية: "إِن كُنتُم مُّؤْمِنين"، إذا أنتم تدعون الإيمان، أو إذا كنتم مستعدين إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى. ثم بعد ذكر هذا التوبيخ وقوله "إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ"، يقول تعالى: "هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ". هنا جاءت إلى وصف جميل لدور النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حيث ذكرت الناس الذين آمنوا برسول الله وآمنوا بهذا الدين وآمنوا بالقرآن الكريم، يقول لهم: تعالوا نحن نذكركم بهذا النبي الذي أرسلناه لكم، كيف هو فيكم؟ يقول: "هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ". تقبل الله وتلطف عليكم بأن بعث فيكم هذا الرسول الكريم، وأنزل عليه هذا القرآن بالآيات البينات. هذه ماذا تفعل الآيات البينات؟ يقول: "لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ". وهذا هو دور الأنبياء، الله بعثهم ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور.

 

هنا لفتة جميلة، عادة حينما يذكر القرآن الكريم في هذا المورد "ظلمات" و"نور"، يذكر الظلمات بالجمع والنور بالمفرد. هل هنا فيه مغزى؟ نعم، نحن مثلاً في آية الكرسي: "اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة - 257). لاحظ، الله ولي الذين آمنوا، والذين كفروا أولياؤهم جمع، بينما بالنسبة إلى الحق مفرد. الله ولي الذين آمنوا النور مع الحق، والظلمات مع الضلال والكفر. ما معنى ذلك؟ الحق طريقه واضح مستقيم لا اعوجاج فيه، لا يوجد عدة طرق، هو طريق واحد، طريق الله طريق واحد، دين الله دين واحد، رسالة الله رسالة واحدة، الحق أبلج. أما طريق الضلال، طريق الضلال والكفر والشرك هو طريق متعرج له شعب هنا وهناك، أولياؤه متعددون، ليست دعوتهم واحدة، وليست رسالتهم واحدة إن كان عندهم رسالة، ليس منهجهم واحدًا وإنما شأنهم التخبط. ولهذا الله يوصف دائمًا أهل الضلال بأن طريقهم الظلمات. في آية أخرى أيضًا يقول تعالى: "وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (الأنعام - 153). الله له سبيل واحد، بينما الآخرون ما دون الله فإن عندهم عدة سبل، عدة تشعبات فيتفرق بكم عن سبيله. قال تعالى: "وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ"، يعني الله حينما أنزل رسالة السماء على النبي صلى الله عليه وآله انطلق معكم من منطلق الرأفة والرحمة. وفي هذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى رسالته إلى الناس لا يريد بهم إلا الرأفة والرحمة. وفي هذا دليل على رأفة الدين ورحمة الدين التي جاءت من رأفة ورحمة الله سبحانه وتعالى بالناس أجمعين.

 

ثم الآية، بقي عندنا آيتان لن نطيل. "وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"، يعني بعد الترغيب في الإنفاق في سبيل الله، يقول: "وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ". الآن رجعت الآيات تتحدث عن الإنفاق في سبيل الله. "وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ". الميراث هو الإرث، الميراث هو ما يرثه الإنسان. مثلاً، حينما نتحدث عن الإنسان، "وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"، يعني الوارث الذي له منتهى كل شيء، وارث كل شيء هو الله سبحانه وتعالى. يعني تريد أن تقول الآية: أيها الناس، لماذا لا تنفقون مما أعطاكم الله سبحانه وتعالى في سبيله وأنتم إلى رحيل؟ أنتم منتهون، ذاهبون، والوارث لكل هذه النعم هو الله سبحانه وتعالى. يعني كما نقول نحن، الدنيا هذه لا تساوي شيئًا، كل شيء يرجع إلى الله سبحانه وتعالى. وفي هذا الإنسان إذا عرف أن الميراث لله سبحانه وتعالى، وأن كل شيء منتهٍ، هذا يجعل في نفسه حالة من الجود والسخاء والإقبال على الإنفاق.

 

ثم الآية المباركة قارنت بين فئتين لهما ربط بالفتح. قال تعالى: "لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُوْلَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ". هنا، ما المقصود بالفتح؟ أي يوم هذا يوم الفتح المقصود به؟ هل هو يوم الحديبية؟ كما أشارت سورة الفتح: "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا"، هذا كان يوم الحديبية، ليس يوم مكة. أو هو لا، يوم فتح مكة، أيضًا هو يوم الفتح. فالمقصود به: من قبل الفتح وقاتل. أي يوم هل هو المقصود به الحديبية؟ أم فتح مكة؟ الجواب: منهم من قال الحديبية لأنه القرآن تحدث وقال: "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا"، سورة الفتح ما نزلت في يوم فتح مكة، وإنما نزلت في يوم الحديبية. وبعضهم قال: لا، المقصود به هنا فتح مكة، ليس فتح الحديبية بقرينة ماذا؟ بقرينة "وقاتل"، لأنه في يوم الحديبية لم يسل سيف ولم يقاتل أحد، بينما في يوم فتح مكة صار هناك قتال. صحيح، الرسول فتح مكة، يعني ما كانت هناك مقاومة من أهل مكة، لكن يذكر المؤرخون بأن هناك فئة من أهل مكة، وقليلة، قاتلت، ولكن انتهى الأمر بسرعة، يعني ما نشب نزاع كبير أو فئة قليلة جدا قاتلت وانتهى الأمر، حسم الأمر لصالح المسلمين. فقالوا بقرينة (وقاتل)، يقصد به فتح مكة لا فتح الحديبية. على أي حال، هنا في إشارة جميلة، يقول بعض المفسرين بأن هذه المقارنة هل هي خاصة بهؤلاء الذين عاشوا الفتح؟ يعني هذا الذي أنفق وقاتل قبل الفتح أعظم درجة، بينما من جاء بعد الفتح، بعد الفتح قاتل وأنفق، لا! أقل رتبة وشأنًا منه. طبعًا، هنا يقولون: الأمر واضح، لأنه في حال شدة، وفي حال أن الإسلام يريد الناصر وحيث يعز الناصر والمعين، عادة الذي ينفق ويقاتل في وقت اشتداد الأمر، لا شك أفضل من ذاك الذي يأتي بعد الفتح، الأمور هدأت واستوت، يعني الأمور استتبت، ما في مشاكل، ما في توترات، ويقاتل وينفق. ذلك الذي قبل، تحمل وصبر، أفضل من هذا. هنا بعض المفسرين في إشارة جميلة يقول: بأن هذه الصورة التي يعطينا إياها القرآن، ممكن نحن نستنسخها في كل زمان. يعني إذا جئنا إلى زمن عز فيه الناصر للإسلام، والذي يقف مع الحق، وصار على المؤمن الشدائد الكبيرة والتضييق، يؤذى في سبيل الله، ويقوم بدوره بجهاده بإنفاقه بوقفته بنصرته للحق، يقول: هذا أفضل من بعد أن يستتب الأمر، والأمور تتسق، ويقول: يجيء واحد ويقول: والله أنا الآن سأنفق وأقدم. لا! يقول: هذا أفضل. الآن أقدم لك مثالاً تاريخيًّا. حينما قام الإمام الحسين عليه السلام، كم ناصر كان عنده؟ سبعون، سبعون ونيف. هؤلاء السبعون ونيف وقفتهم هذه وجهادهم بين يدي أبي عبد الله الحسين عليه السلام لا تقارن ببعد كربلاء، حتى لو قدمت تضحيات الآن مثلاً في حركة التوابين التي قادها سليمان بن صرد الخزاعي واستشهد كثير منهم في عين الوردة، هؤلاء الذين استشهدوا بالآلاف، مع أنهم استشهدوا وقاتلوا وأنفقوا، لكن هؤلاء الذين استشهدوا قبل كربلاء لا شك أعظم درجة من الذين جاءوا بعد كربلاء. هنا عز الناصر، هنا الإسلام كان يريد الناصر، هنا الأمور انتهت. كربلاء، الأمور صارت في صالح أتباع أهل البيت في الكوفة، الأمور في يدهم، هؤلاء أعظم درجة من هؤلاء، وهكذا تستطيع أن تستنسخ هذه الصورة في أكثر من زمان ومكان، وإن كان "وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ". الكل يعطي الله الثواب، لكن هؤلاء مقدمون على أولئك.

 

في الأخير، آخر آية، يقول الله تعالى: "مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ" (الحديد - 11)، جاءت بتشويق كبير جدًّا للإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى. جميل، الآية المباركة تعطينا صورة جميلة متحركة. تقول الآية المباركة: أنت في إنفاقك في سبيل الله تقرض الله. عادة الإنسان الذي يقرض إنسانًا، ماذا يتوقع؟ أن يرد له المال، صحيح؟ أولاً، بعد حلول الأجل يرد له المال. هذا يعني أكثر ما يتوقع، لكن مع الله سبحانه وتعالى، القرض غير. أنت تقرض الله سبحانه وتعالى، كيف يرد لك القرض؟ الله سبحانه وتعالى، أولاً يرد لك أضعاف مضاعفة، لم يذكر رقم القرآن، قال: أضعاف مضاعفة، لك أن تتخيل هذا الرقم. هذا أولاً. ثانيًا: "وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ"، أيضًا لم يذكر هذا الأجر. كما نقول نحن: مفاجأة من العيار الثقيل. واحد يقول لك: تخيل أنت في البشر، واحد جواد كريم معطاء سخي يقول لك: راح يكافئك بمكافأة مفاجأة من العيار الثقيل. أنت لك أن تتخيل هذه المفاجأة. هذه مفاجأة من واحد من البشر، فكيف لو كانت من الله، أجود الأجودين وأكرم الأكرمين، الذي لا حدود لعطائه؟ هذا معنى "مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ". مكافأة بعد خاصة فوق هذا الأجر المضاعف.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد