قرآنيات

القرآن مصون عن التّحريف (1)

الشيخ لطف الله الصافي الكلبايكاني

 

 

من الأمور الواضحة البيّنة، أن الكتاب الـمُبين الَّذي أحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكيم خَبير، والذي نزّله اللّه على عبده محمد (صلى الله عليه وآله) (ِبْياناً لِكُلِّ شَىْء وهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِين. وَلِيَكُونَ لِلْعالَمينَ نَذيرا، وَلِيَهْدي بِه مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلام. وَلِيُخْرجَ النّاسَ مِنَ الظّلُماتِ إلَى النّور...) هو هذا الكتاب المشهور المعروف الذي وصل منذ عصر نزوله، ولا يزال في أيدي المسلمين شيعة وسنة، يعرفونه جميعاً أنه هو كتاب اللّه المنزل على قلب الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) الموسوم بالقرآن، والمشتمل على مئة وأربعة عشر سورة، يحترمونه أسمى الاحترام ويعظمونه أعظم التقديس بكله، بسوره وآياته وكلماته وحروفه، لا يستثنون من هذا الاحترام والتعظيم والتقديس كلمة واحدة ولاحرفاً واحداً.

 

ولا ريب أن هذا التعظيم والتقديس، الذي أخذه الخلف عن السلف، ينتهي إلى عصر نزوله، عصر بزوغ شمس الرسالة الخاتمة المحمدية، وأنهم كانوا يستنكرون ما يشعر الإهانة به عملاً أو لفظاً في جميع الأدوار والأعصار أشد الإنكار، ويعتبرونه جريمة كبيرة كإهانة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) يكفر فاعلها ويعاقب عليها. لا يلصق بكرامته وعلو قدس فصاحته وبلاغته كلام أحد من البشر، فهو بنفسه وبلاغته يشهد بقدسيته الكاملة، ويردّ دعوى لحوق غيره به (رد الغيور يد الجاني عن الحرم).

 

ومن البراهين القائمة التامة القاطعة على عدم وقوع التحريف فيه زيادة ونقيصة، أنه معجزة الإسلام الخالدة، معجزة باقية تثبت بها رسالة سيدنا محمد خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله)، بل وسائر رسالات السماء، لأنها كلها تثبت بالقرآن الكريم. والتحدي به لإثباته مستمر إلى زماننا هذا وما بعده، فلكل مسلم أن يتحدى به في جميع الأزمنة. ولا ريب أن وقوع الزيادة أو النقيصة فيه تمنع من ذلك، لأنه حينئذ لا يكون مصوناً من المعارضة والإتيان بمثله، فعجز البشر عن الإتيان بمثله في مر الزمان، مع هذا الإعلام والإعلان العام الشامل لجميع الأعصار والأدوار، دليل واضح على صيانته من الزيادة والنقصان.

 

فها نحن وجميع المسلمين نتحدى به لإثبات رسالة الإسلام، ونبوة سيدنا محمد بن عبد اللّه خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) ونقول: يا أيها الناس إن كنتم في ريب من أن القرآن مصون، وأنه في حفظ اللّه من التغيير والتبديل والزيادة والنقصا،ن فأتوا بسورة من مثله، وادعوا شهداءكم من دون اللّه إن كنتم صادقين، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين.

 

هذا مضافاً إلى أن العارف بالتاريخ الإسلاميّ، واهتمام النبي صلى اللّه وآله بشأن القرآن تبليغاً وحفظاً وكتابة، وكذا اهتمام الصحابة بأخذه وحفظه وتعليمه وتعلّمه، وكذا تجزئته بالآيات والسور بأسمائها المعروفة في عصره، يعرف أن مثل هذا الكتاب مع هذا الاهتمام البليغ بشؤونه، لا يمكن عادة أن يزاد عليه أو ينقص منه، فإذا كان ديوان شعر شاعر مشهور مصوناً من التصرف فيه والتغيير، والقصائد السبع المعلقة محفوظة عن ذلك، وإن زيد عليها بيت عرفه أهل الأدب والعارفون بفنون البلاغة بل وغيرهم، فكيف يمكن عادة وقوع ذلك في القرآن الكريم، مع كثرة الدّواعي إلى حفظه لفظاً بلفظ، وكلمة بكلمة؟ ومن الذي لا يعرف من أهل اللّسان أنّ ما نقل في المنقولات الضعيفة أنه سقط من القرآن لا يلتصق به فصاحة وبلاغة وأسلوباً ومضموناً وهداية.

 

فإن قلت: نعم، احتمال الزيادة مردود قطعاً، وأما احتمال النقيصة، وإن كان بمكان من الضعف لا يعتد ولا يعتنى به، إلا أنه غير مقطوع به. قلت: أولاً: إنّ بقاء التحدي به إلى يوم القيامة، وعجز الإنس والجن عن الإتيان بمثله ينفي هذا الاحتمال.

وثانياً: هذا الاحتمال كما ذكرتم لا يعتنى به عند العرف فهو كالعدم، والعلم بالشيء لغة وعرفاً، أعم من ذلك ومن عدم احتمال الخلاف.

وثالثاً: هذا الاحتمال منفي بدلالة آيات من القرآن الكريم، الذي أثبتنا ضرورة عدم وقوع الزيادة فيه، مثل قوله (إنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الِذّكْرَ وَإنّا لَهُ لَحافِظُونَ) وقوله عز من قائل (لا يأتِيِه الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ).

ورابعاً: بالأحاديث المأثورة الثابتة عن النبي (صلى الله عليه وآله).

وخامساً: بالأحاديث المتواترة المروية عن الأئمة المعصومين من عترته (عليهم السلام) مثل الأحاديث المروية في ثواب قراءة السور، والأخبار الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب، وكذا الأحاديث المتواترة الآمرة بالرجوع إلى الكتاب والتمسك به، والأخبار الدالة على استشهاد الأئمة (عليهم السلام) بالآيات الكريمة، وأحاديث الثقلين المتواترة، وغيرها.

وأما الأخبار الضعيفة التي يستشعر منها النقيصة فضعاف جدّاً، معلولة بعلل كثيرة في أسنادها وألفاظها ومداليلها يطول الكلام بنا بالإشارة إليها، وكلها لا تقاوم الطائفة الأولى من الأخبار الدالة على أن القرآن المنزل من اللّه تعالى هو هذا الكتاب.

 

هذا مضافاً إلى أن هذه الأخبار مردودة مطروحة بمخالفتها للكتاب والإجماع العملي من جميع المسلمين شيعة وسنة، القائم على صيانة القرآن من التحريف، ولذا لم يقع ذلك محل خلاف بين الأمة شيعة وسنة، إلا ما عن بعض الحشوية من أهل السنة وظاهر بعض الأخباريين من الشيعة الذين لا يعتد بخلافهم، فصار خلافهم متروكاً مهجوراً، وصار القول بعدم التحريف قولاً ظاهراً واضحاً، عرفه الخاص والعام من الفريقين وحتى العوام، حتى صار، أنّ التفوه باحتمال خلاف ذلك، يعد من التفوه بخلاف الضرورة. فلا يصح عد ذلك من الخلافات الواقعة بين الفريقين التى يقال فيها رأي الشيعة كذا، ورأي السنة كذا.

فالقرآن الموجود بين الدفتين هو كتاب دين الفريقين، وهو أصلهم الأول الذي تأتي بعده السنة المشروط صحة الاعتماد عليها بأن لا تكون مخالفة للقرآن، وهذا الأمر يحتج به الجميع في الأصول والفروع، وفي خلافاتهم ويعتمدون عليه وعلى السنة.

فكل الأمة شيعة وسنة يتمسكون بجميع محكماته، وفي متشابهاته أيضاً يقولون: آمنّا به كلّ من عند ربنا.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد