قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مهدي الآصفي
عن الكاتب :
عالم ومفكر اسلامي كبير، واستاذ في الحوزة العلمية، توفي(٤/٦/٢٠١٥)

رحلة الشهادة في القرآن الكریم (4)

﴿یرزقون﴾:

وهذه الكلمة‌ تشخص‌ نوع الحـیاة‌، إنـها‌ حیاة حقیقیة معنویة خالصة، بل‌ هی‌ الحیاة بكل أبعادها المادیة والمعنویة، وهذه الجـملة لا تـبقي لأحد مجالاً‌ للشك‌ في تـشخیص هـذه الحیاة بـعد حـیاة‌ الدنـیا. ومن العجب‌ أن‌ بعض المفسرین یـترددون فـي تفسیر‌ هذه‌ الآیة بالحیاة الحقیقیة، والآیة الكریمة ترسم الحیاة بصورة واضحة؛ فـالشهداء أحـیاء‌ عند‌ ربّهم یرزقون في حیاتهم الجـدیدة‌، ویفرحون‌ بما آتاهم اللّه مـن‌ فضله ویستبشرون بالذین من‌ خـلفهم‌، وهـل بعد كل هذه النقاط غموض في معنی الحیاة التي تلي هذه الحیاة‌ والتـي‌ تـسبق الحیاة الآخرة.

إنها الثانیة‌ لیـست‌ هـي الحـیاة‌ الآخرة‌، فالحیاة الآخـرة لیـست موضع‌ إنكار أحد مـن المـؤمنین، والآیة حیث تنهى عن حسبان الشهداء من الأموات فإنها تكاد‌ تكون‌ صریحة فی أنّ المـقصود من هذه‌ الحیاة‌: حیاة‌ أخری‌ غـیر حـیاة الآخرة‌؛ فـإنّ أحـدًا مـن المؤمنین لا یشك في حـیاة الآخرة للشهید ولغیر الشهید، فلا بُدّ أن‌ یكون‌ المقصود‌ حیاة أخری بین حیاة الدنیا وحـیاة الآخـرة‌، وهي‌ التي‌ یجهلها‌ الكثیر‌ من المـؤمنین، یـنتقل إلیـها الشـهید مـن الحیاة الدنیا مـباشرة، ویـعیش فیها بجوار ربّه تبارك وتعالى، والناس ینظرون إلى الشهید جثة هامدة فیتصوّرون أنّه میّت‌، ولیس هو بـمیّت، وإنـّما یـنعم في جوار ربّه بما أعدّ اللّه للصـالحین مـن عـباده مـن فـضل ورحـمة في الجنة، حتی ینتقل في‌ الآخرة‌ إلى حیث یختار اللّه تعالی له من مراتب رحمته وفضله في جنة عرضها السماوات والأرض.

وفي أحادیث رسول اللّه صلی ‌الله ‌علیه ‌و‌آله وأهل بیته شواهد كثیرة علی هذه الحـیاة البرزخیة التي‌ یحیاها‌ الشهداء والصالحون من عباد اللّه في الجنة، وینعمون فیها برحمة اللّه قبل الحشر والحیاة الآخرة، ففي الحدیث عن جابر بن عبد‌ اللّه‌ الأنصاري عن رسول اللّه فیما‌ جری‌ للمسلمین فـي حـرب مؤتة بعد استشهاد زید بن حارثة وجعفر بن أبي طالب، وعبد اللّه بن رواحة الأنصاري رحمهم اللّه الذین عیّنهم النبي‌ صلی ‌الله ‌علیه ‌و‌آله‌ قادة للجیش علی التوالي‌، إن استشهد منهم أحد، تولى الآخر مـحله، یـقول جابر رحمه ‌الله:

«فلمّا كان الیوم الذي وقع فیه حربهم صلّی النبي صلی ‌الله ‌علیه ‌و‌آله بنا الفجر ثم صعد المنبر فقال: قد‌ التقی إخوانكم مع المشركین للمـحاربة فـأقبل یحدّثنا بكرّات بعضهم علی بـعض، إلى أن قـال: قُتل زید بن حارثة وسقطت الرایة، ثم قال: قد أخذها جعفر بن‌ أبي طالب وتقدم‌ للحرب، ثم قال: قد قُطعت یده، وقد أخذ الرایـة بـیده الأخری، ثم قال‌: قـُطعت یـده الأخری وقد أخذ الرایة فی صدره، ثم‌ قال‌: قُتل جعفر بن أبي طالب وسقطت الرایة، ثم أخذها عبد اللّه بن رواحة، وقد قتل ‌‌من‌ المشركین كذا، وقُتل من المسلمین كذا، فـلان وفـلان إلى أن ذكر‌ جمیع‌ من‌ قتل من المسلمین بأسمائهم، ثم قال: قُتل عبد اللّه بن رواحة، وأخذ‌ الرایة خالد بن الولید فانصرف المسلمون، ثم نزل عن المنبر وصار إلى‌ دار جعفر، فدعا‌ عبد‌ اللّه بـن جـعفر فأقعده فـی حجره وجعل یمسح علی رأسه، فقالت والدته أسماء بنت عمیس: یا رسول اللّه إنّك لتمسح علی رأسه كـأنّه یتیم قال: قد استشهد‌ جعفر فی هذا الیوم، ودمعت عـینا رسـول اللّه صـلی ‌الله ‌علیه ‌و‌آله وقال: قطعت یداه قبل أن یستشهد وقد أبدله اللّه بجناحین من زمرد أخضر، فهو الآن یطیر بهما في الجنة‌ مـع‌ ‌ ‌المـلائكة كیف یشاء» (بحار الأنوار 21: 54 نقلاً عن الخرائج 188).

 

﴿فرحین بما آتاهم اللّه من فضله...﴾ (آل‌ عـمران: 170)

إن فـرح الشـهید بـما یؤتیه‌ اللّه‌ تعالی من فضله ورحمته الواسعة لا حدّ له، إنه یستقبل الرحمة الإلهیة الواسعة ویری مـا أعدّ اللّه تعالى من فضل ورحمة قبل أن تفارق الروح جسده وقبل أن‌ یلفظ‌ آخر أنـفاسه. روی زید بن علي عـن أبـیه علي بن الحسین زین العابدین علیه ‌السلام، عن آبائه، قال: «قال رسول اللّه صلی ‌الله ‌علیه ‌و‌آله: للشهید سبع‌ خصال‌ من‌ اللّه:

أول قطرة من دمه‌: مغفور‌ له كلّ ذنب.

والثانیة: یقع رأسه فی حجر زوجتیه من الحور العین وتـمسحان الغبار عن وجهه، وتقولان: مرحبًا‌ بك‌، ویقول: هو مثل ذلك لهما.

والثالثة: یكسی‌ من كسوة الجنة.

والرابعة: تبتدره خزنة الجنة بكل ریح طیبة أیّهم یأخذه معه.

والخامسة: أن یری منزله‌.

والسادسة: یقال لروحه اسرح في الجنة حـیث شـئت.

والسابعة: أن‌ ینظر في وجه اللّه، وإنها لراحة لكل نبي وشهید» (تهذیب الأحكام 6: 122).

 

﴿...ویستبشرون بالذین لم یلحقوا بهم‌ من‌ خلفهم‌...﴾ (آل عمران: 170‌):

إن الشهداء لم یموتوا ولم ینل الموت منهم‌ وعیًا‌ ودركًا؛ إنّهم یرون إخوانهم المؤمنین الذین لم یلحقوا بهم بـعد، ویـتابعون حركتهم ومسیرتهم، ویدعون‌ اللّه‌ تعالی لهم ویستبشرون بوفود إخوانهم الذین لم یلحقوا بهم بعد علیهم، وإن‌ لكل‌ لقاء جدید فرحة جدیدة وبشری جدیدة، وفي كل یوم لهم بشری جدیدة بـلقاء‌ أخ جدید في اللّه یفد علی اللّه من بین لظی المعركة، ویقبل علیهم فیستقبلونه‌ بالابتهاج‌ والسرور‌.

إنهم حاضرون (وشهداء) المعركة، لم یغیبوا عنها بالموت ولم یكن الموت‌ بالنسبة‌ إلیهم غیابًا، إنهم عند ربـّهم یـشهدون المـعركة ویتابعون أحداثها، ویدعون للمقاتلین‌ ویـستبشرون‌ بـالقادمین‌ مـنهم إلیهم وحاشا أن یكون أولئك أمواتًا بل هم من شهداء المعركة وحضّارها، إنما‌ الأموات‌ هم أولئك الغائبون عن مسیرة التأریخ وحیاة الناس، وصراع الحـق والبـاطل‌، وجـهاد‌ المؤمنین، وهم أولئك الذین یؤثرون الحیاة الدنیا وعافیتها، ویـخلدون إلى الراحـة ویعتزلون تیّار‌ العمل‌ والحركة‌ والجهاد، ویعیشون علی هامش الحیاة والتأریخ، یتفرجون علی الصراع من‌ بعید‌، أولئك هم الأموات، بالرغم مـن أنـّهم یـستنشقون الهواء ویتحركون، أولئك أحیاء الأموات الذین‌ لا‌ یعرفون للحیاة معنی غیر هـذه الحیاة التي یعیشها البهائم، ولا یعرفون‌ في‌ الحیاة لذّة ومتاعًا إلاّ ما یعرفه الحیوان‌ من‌ اللذة‌ والمتاع، ولا تتجاوز اهتماماتهم وطموحاتهم شهوات‌ الحـیوانات‌ واهـتماماتها، أولئك هـم الغائبون الأموات.

أما الشهداء فلا یغیبون عن هذه الساحة‌ لحظة‌ واحدة، ویـشهدون عـن كثب‌ من‌ عند ربهم‌ كل‌ تطورات‌ المسیرة وحركتها وتقدمها وانتصاراتها وانتكاساتها وآلامها‌ وآمالها‌ وتطلعاتها وطموحاتها ومـعاناتها ولكـن بـنفس یختلف عن أنفاسنا ورؤیة تختلف عن رؤانا‌ وتصوّر‌ یختلف عن تصوّراتنا المـحدودة.

 

لا خـوف‌ ولا حـزن:

وذلك قوله‌ تعالی‌: ﴿...ولا خوف‌ علیهم‌ ولا هم یحزنون﴾ (آل عمران: 170) فهم ینظرون إلى إخوانهم‌ الذین لم یلحقوا بهم بـعد‌ وإلى المـسیرة‌ الحافلة بالدماء والجهاد‌ والانتصارات‌ والانتكاسات والآلام والمرارات. بهـذه‌ الرؤیة الربّانیة: ﴿لا خوف علیهم ولا هم یحزنون﴾.

أما نـحن، هـنا‌ في هذه الدنیا، فرؤیتنا تختلف‌، إننا ننظر‌ إلى‌ المسیرة‌ من خلال تصوّراتنا البـشریة‌ التـي یـشوبها الضعف وقصر المدی والتشویش، وینتابنا القلق والارتباك كلما توقعنا مصیبة تنزل بنا‌ فی‌ حـركتنا، وكـلما توقعنا عاصفة تعصف‌ بنا‌ ولا‌ تذر‌ لنا‌ رطبًا أو یابسًا‌، وینتابنا الحزن والألم كلما نزلت بـنا داهـیة، أو عـمّتنا مصیبة ضاقت بنا الأرض بسعتها، واعتصرتنا‌ الآلام‌: آلام الفراق ومرارة الانتكاسات وشدة الابتلاء‌ في‌ الأنفس‌ والأموال‌ والأرزاق والأمـن‌، فالمسیرة بالنسبة إلینا ـ ومن خلال تصوّراتنا ـ حافلة بالخوف والحزن؛ الخوف علی مـا نـتوقعه مـن الابتلاء، والحزن علی ما نزل بنا من ابتلاء‌ وشدة، وقلیل من عباد اللّه الذین تصفو لهـم الرؤیـة فـي وسط هذه المسیرة الحافلة بالدماء والآلام، فلا یعیشون خوفًا ولا حزنًا.

أمّا الشهداء فـرؤیتهم وتـصوّرهم لهذه المسیرة‌ یختلف‌ عن رؤیتنا وتصوّراتنا البشریة المشوبة بضعف الإنسان، إنها رؤیة اكتسبوها من عند اللّه صافیة، بـعیدة المـدی، ملؤها الثقة والاطمئنان باللّه تعالى، رزقهم اللّه تعالى إیّاها من‌ عنده‌، فهم یـرون المـسیرة الربانیة علی وجه الأرض بهذه الثقة والطمأنینة وبـهذه الرؤیـة الصـافیة من غیر خوف ولا قلق ولا حزن، ومن‌ ثـم‌ یـستبشرون بإخوانهم الذین لم یلحقوا‌ بهم‌ بعد، والذین یخوضون غمار المعركة ألاّ خوف علیهم ولا هم یـحزنون، ألاّ یـخافوا من شيء یستقبلهم ولا یحزنوا عـلی شـيء فاتهم، فـلن‌ یـتجاوزهم نـصر اللّه الذي‌ وعد‌ اللّه به الصالحین من عـباده، ولن یـتخطاهم النصر والتأیید والدعم والإمداد من اللّه، فی وسط هذا الصراع الحافل بالدماء والآلام والمـرارات والمـعاناة.

﴿ونرید أن نمنّ علی الذین‌ استضعفوا‌ فـی الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثـین * ونمكن لهـم فی الأرض ونری فرعون وهامان وجـنودهما مـنهم ما كانوا یحذرون﴾ (القصص: 5 ـ 6).

فعلامَ الخوف والقلق والارتباك من المستقبل؟ فلن یصیبهم أذی‌ أو‌ تـعب فـي‌ سبیل اللّه ولن تقسـو علیهـم الابتلاءات، إلاّ كـتب اللّه تـعـالى لهــم بكـل ذلك عملاً صـالحًا وأجـًرا‌.

﴿...ذلك بأنّهم لا یصیبهم ظـمأ ولا نـصب ولا‌ مخمصة‌ فی‌ سبیل اللّه ولا یطؤون موطئًا یغیظ الكفار ولا ینالون من عدوٍ نیلاً إلاّ كتب لهم بـه عـمل ‌‌صالح‌...﴾ (التوبة: 120).

فعلامَ الحزن مما یصیبهم مـن ابـتلاءات ومحن وآلام ومـما یـعانون‌ فـي‌ سبیل‌ اللّه؟

إذن: (لا خوف ولا حزن) فـي هذه المسیرة، ولیس علی‌ العاملین في هذه المسیرة الكادحة ذات الشوكة حزن أو خوف مما أصابهم أو‌ یـصیبهم مـن ابتلاء. تلك‌ هي الرؤیة الربانیة الصـافیة الواثـقة، بـعیدة المـدی للمـسیرة، وإن علینا ـ نحن العـاملین فـي سبیل اللّه علی خطی الشهداء ـ أن نتسلح بهذه الرؤیة ونبدل رؤیتنا القلقة والمرتبكة الخائفة‌ بالرؤیة الربانیة الواثقة والمـطمئنة بـعیدة المـدی لنتمكن من حمل عب‌ء المسؤولیة الشاقة ومـواصلة السـیر عـلی طـریق الأنـبیاء والمـرسلین.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد