لا شكّ أن القرآن نزل بالفصحى من لغة العرب، سواء في موادّ كلماته أم في هيئات الكلم وحركاتها البنائية والإعرابيّة، اختار الأفصح الأفشى في اللغة دون الشاذّ النادر. وحتى من لغات القبائل اختار المعروف المألوف بينهم دون الغريب المنفور. فما أشكل من فهم معاني كلماته، لا بدّ لحلّها من مراجعة الفصيح من كلام العرب المعاصر لنزول القرآن؛ حيث نزل بلغتهم وعلى أساليب كلامهم المألوف.
وهكذا نجد ابن عباس يرجع، عند مبهمات القرآن وما أشكل من لفظه، إلى فصيح الشعر الجاهلي، والبديع من كلامهم الرفيع. وكان استشهاده بالشعر إنما جاءه من قبل ثقافته الأدبيّة واضطلاعه باللغة وفصيح الكلام. وفي تاريخ الأدب العربي آنذاك شواهد رائعة تشيد بنبوغه ومكانته السامية في العلم والأدب.
وساعده على ذلك ذكاء مفرط وحافظة قويّة لاقطة، كان لا يسمع شيئا إلّا وكان يحفظه بكامله لوقته.
يروي أبو الفرج الأصبهاني بإسناده إلى عمر الركاء، قال: بينا ابن عباس في المسجد الحرام وعنده نافع بن الأزرق (رأس الأزارقة من الخوارج) وناس من الخوارج يسألونه؛ إذ أقبل عمر بن أبي ربيعة في ثوبين مصبوغين مورّدين أو ممصّرين «1» حتى دخل وجلس. فأقبل عليه ابن عباس فقال: أنشدنا، فأنشده:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر
غداة غد أم رائح فمهجّر؟
حتى أتى على آخرها فأقبل عليه نافع بن الأزرق، فقال: اللّه يا ابن عباس! إنّا نضرب إليك أكباد الإبل من أقاصي البلاد نسألك عن الحلال والحرام فتتثاقل عنّا، ويأتيك غلام مترف من مترفي قريش فينشدك:
رأت رجلاً أمّا إذا الشمس عارضت
فيخزى وأما بالعشيّ فيخسر!
فقال: ليس هكذا قال. قال: فكيف قال؟ فقال: قال:
رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت
فيضحى وأما بالعشيّ فيحصر!
فقال: ما أراك إلا وقد حفظت البيت! قال: أجل! وإن شئت أن أنشدك القصيدة أنشدتك إيّاها. قال: فإنّي أشاء. فأنشده القصيدة حتى أتى على آخرها. وما سمعها قطّ إلّا تلك المرّة صفحًا «2»، وهذا غاية الذكاء.
فقال له بعضهم: ما رأيت أذكى منك قطّ! فقال: ولكنّي ما رأيت قطّ أذكى من عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.
وكان ابن عباس يقول: ما سمعت شيئًا قطّ إلّا رويته.
ثم أقبل على ابن أبي ربيعة، فقال: أنشد، فأنشده:
تشطّ غدا دار جيراننا... وسكت.
فقال ابن عباس: وللدار بعد غد أبعد! فقال له عمر: كذلك قلت - أصلحك اللّه - أفسمعته؟ قال: لا، ولكن كذلك ينبغي!! «3» وهذا غاية في الفطنة والذكاء، مضافًا إليه الذوق الأدبي الرفيع!
وهو الذي كان يحفظ خطب الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام الرنّانة فور استماعها ، فكان راوية الإمام في خطبه وسائر مقالاته .
وكان ذوقه الأدبي الرفيع وثقافته اللغوية العالية، هو الذي حدا به إلى استخدام هذه الأداة ببراعة، حينما يفسّر القرآن ويشرح من غريب لفظه. كان يقول: الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن، الذي أنزله اللّه بلغة العرب، رجعنا إلى ديوانها، فالتمسنا معرفة ذلك منه.
وأخرج ابن الأنباري من طريق عكرمة عن ابن عباس، قال: إذا سألتموني عن غريب القرآن، فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب «4».
وأخرج الطبري من طريق سعيد بن جبير - في تفسير قوله تعالى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «5» - عن ابن عباس، وقد سئل عن (الحرج)، قال: إذا تعاجم شيء من القرآن فانظروا في الشعر فإن الشعر عربيّ. ثم دعا أعرابيًّا فقال: ما الحرج؟ قال: الضيق. قال ابن عباس: صدقت «6».
وكان إذا سئل عن القرآن، في غريب ألفاظه، أنشد فيه شعرًا. قال أبو عبيد:
يعني كان يستشهد به على التفسير.
قال ابن الأنباري: وقد جاء عن الصحابة والتابعين كثيرًا، الاحتجاج على غريب القرآن ومشكله بالشعر، قال: وأنكر جماعة - لا علم لهم - على النحويّين ذلك، وقالوا: إذا فعلتم ذلك جعلتم الشعر أصلًا للقرآن. وليس الأمر كما زعموا، بل المراد تبيين الحرف الغريب من القرآن بالشعر؛ لأنه تعالى يقول: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا «7»، وقال: وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ «8».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ثوب ممصّر: مصبوغ باللون الأحمر، وفيه شيء من صفرة.
(2) أي مرورًا وعرضًا.
(3) الأغاني، ج 1، ص 81 - 83.
(4) الإتقان، ج 2، ص 55.
(5) الحج / 78.
(6) الطبري، ج 17، ص 143.
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ علي المشكيني
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد جعفر مرتضى
الشيخ عبدالهادي الفضلي
عدنان الحاجي
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ محمد صنقور
الشيخ محمد هادي معرفة
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
حسين حسن آل جامع
فريد عبد الله النمر
الشيخ علي الجشي
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان