
الشيخ باقر شريف القرشي
أظهر الطاغية الآثم فرحته الكبرى بإبادته لعترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فقد صفا له الملك ، واستوسقت له الأمور ، وأخذ يهزّ أعطافه جذلاناً متمنّياً حضور القتلى من أهل بيته ببدر ؛ ليريهم كيف أخذ بثارهم من النبي (صلّى الله عليه وآله) في ذرّيته ، وراح يترنّم بأبيات ابن الزبعري قائلاً أمام الملأ بصوت يسمعه الجميع :
لـيتَ أشـياخي ببدرٍ شهدوا ... جزعَ الخزرجِ من وقعِ الأسلْ
فـأهـلّوا واسـتهلّوا فـرحاً ... ثـمّ قـالوا يا يزيدَ لا تُشلْ
قـد قـتلنا القومَ من ساداتهمْ ... وعـدلـناه بـبدرٍ فـاعتدلْ
لـعبت هـاشمُ بـالمُلكِ فلا ... خـبرٌ جـاءَ ولا وحيٌ نزلْ
لـستُ من خندف إن لم أنتقمْ ... مـن بـني أحمدَ ما كان فَعَلْ
ولمّا سمعت العقيلة (عليها السّلام) هذه الأبيات التي أظهر فيها التشفّي بقتل عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) انتقاماً منهم لقتلى بدر ، وثبت كالأسد ، فسحقت جبروته وطغيانه ، فكأنّها هي الحاكمة والمنتصرة ، والطاغية هو المخذول والمغلوب على أمره ، وقد خطبت هذه الخطبة التي هي من متمّمات النهضة الحسينيّة .
قالت (عليها السّلام) : الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله أجمعين ، صدق الله كذلك يقول : {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} [الروم: 10] .
أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء ، فأصبحنا نُساق كما تساق الإماء ، أنّ بنا على الله هواناً ، وبك عليه كرامة ، وأنّ ذلك لعظيم خطرك عنده ، فشمختَ بأنفك ، ونظرتَ في عطفك جذلان مسروراً حين رأيتَ الدنيا لك مستوسقة ، والأمور متّسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا ؟! فمهلاً مهلاً ! أنسيت قول الله عزّ وجلّ : {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178] ؟
أمن العدل يابن الطُلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا ، قد هتكت ستورهنّ ، وأبديت وجوهنّ، تحدو بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد ، ويستشرفهنّ أهل المنازل والمناهل ، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد ، والدَّنيّ والشريف ، ليس معهنّ من رجالهنّ وليّ ، ولا من حماتهنّ حميّ ؟!
وكيف تُرتجى مراقبة مَنْ لفظ فوه أكباد الأزكياء ، ونبت لحمه بدماء الشهداء ؟! وكيف لا يُستبطأ في بُغضنا أهل البيت مَنْ نظر إلينا بالشنف والشنآن ، والإحن والأضغان ؟! ثمّ تقول غير مُتأثّم ولا مستعظم :
لأهَـلّوا واستهلّوا فرحاً ... ثمّ قالوا يا يزيد لا تُشَلْ
منتحياً على ثنايا أبي عبد الله (عليه السّلام) سيد شباب أهل الجنّة تنكتها بمخصرتك !
وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذرّيّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب ؟! وتهتف بأشياخك زعمتَ أنّك تناديهم ! فلتردنّ وشيكاً موردهم ، ولتودّنّ أنّك شُللت وبُكمتَ ولم تكن قلتَ ما قلتَ ، وفعلتَ ما فعلتَ . اللّهمّ خُذ بحقّنا ، وانتقم ممّن ظلمنا ، واحلل غضبك بمَنْ سفك دماءنا وقتل حماتنا .
فوالله ما فريتَ إلاّ جلدك ، ولا حززتَ إلاّ لحمك ، ولتردنّ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بما تحمّلت من سفك دماء ذرّيّته ، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته ، وحيث يجمع الله شملهم ، ويلمّ شعثهم ، ويأخذ بحقّهم ، {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] .
وحسبك الله حاكماً ، وبمحمّد (صلّى الله عليه وآله) خصيماً ، وبجبرئيل ظهيراً ، وسيعلم مَنْ سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين ، بئس للظالمين بدلاً ، وأيّكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً !
ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك ، إنّي لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكثر توبيخك ، لكن العيون عبرى ، والصدور حرّى .
ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النُجباء بحزب الشيطان الطلقاء ! فهذه الأيدي تنطف من دمائنا ، والأفواه تتحلّب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل ، وتعفّرها أمّهات الفراعل . ولئن اتّخذتنا مغنماً لتجدنا وشيكاً مغرماً ، حين لا تجد إلاّ ما قدّمت يداك ، وما ربّك بظلاّم للعبيد ، فإلى الله المشتكى ، وعليه المعوّل .
فكد كيدك ، واسعَ سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله لا تمحونّ ذكرنا ، ولا تُميتُ وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا ترحض عنك عارها . وهل رأيك إلاّ فنداً ، وأيّامك إلاّ عدداً ، وجمعك إلاّ بدداً ، يوم ينادي المناد : ألا لعنة الله على الظالمين .
فالحمد لله الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ، ويوجب لهم المزيد ، ويحسن علينا الخلافة ، إنّه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
وهذا الخطاب من متمّمات النهضة الحسينيّة ، ومن روائع الخطب الثورية في الإسلام ؛ فقد دمّرت فيه عقيلة بني هاشم وفخر النساء جبروت الـموي الظالم يزيد ، وألحقت به وبمَنْ مكّنه من رقاب المسلمين العار والخزي ، وعرّفته عظمة الأسرة النبويّة التي لا تنحني جباهها أمام الطغاة والظالمين .
وعلّق الإمام الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء على هذا الخطاب بقوله : أتستطيع ريشة أعظم مصوّر وأبدع ممثل أن يمثّل لك حال يزيد وشموخه بأنفه ، وزهوه بعطفه ، وسروره وجذله باتّساق الأمور ، وانتظام الملك ، ولذّة الفتح والظفر ، والتشفّي والانتقام بأحسن من ذلك التصوير والتمثيل ؟!
وهل في القدرة والإمكان لأحد أن يدفع خصمه بالحجّة والبيان والتقريع والتأنيب ، ويبلغ ما بلغته (سلام الله عليها) بتلك الكلمات ، وهي على الحال الذي عرفت ، ثمّ لم تقتنع منه بذلك حتّى أرادت أن تمثّل له وللحاضرين عنده ذلّة الباطل ، وعزّة الحقّ ، وعدم الاكتراث واللامبالاة بالقوم والسلطة والهيبة والرهبة ؟! أرادت أن تعرّفه خسّة طبعه ، وضعة مقداره ، وشناعة فعله ، ولؤم فرعه وأصله .
ويقول المرحوم الفكيكي : تأمّل معي في هذه الخطبة النارية كيف جمعت بين فنون البلاغة وأساليب الفصاحة وبراعة البيان ، وبين معاني الحماسة وقوّة الاحتجاج وحجّة المعارضة ، والدفاع في سبيل الحرية والحقّ والعقيدة ! بصراحة هي أنفذ من السيوف إلى أعماق القلوب ، وأحدّ من وقع الأسنّة في الحشا والمهج في مواطن القتال ومجالات النزال .
وكان الوثوب على أنياب الأفاعي ، وركوب أطراف الرماح أهون على يزيد من سماع هذا الاحتجاج الصارخ الذي صرخت به ربيبة المجد والشرف في وجوه طواغيت بني أميّة وفراعنتهم في منازل عزّهم ومجالس دولتهم الهرقلية الارستقراطية الكريهة .
ثمّ إنّ هذه الخطبة التأريخية القاصعة لا تزال تنطق ببطولات الحوراء الخالدة وجرأتها النادرة ، وقد احتوت النفس القوية الحساسة الشاعرة بالمثالية الأخلاقية الرفيعة السامية ، وسيبقى هذا الأدب الحيّ صارخاً في وجوه الطغاة الظالمين على مدى الدهر وتعاقب الأجيال ، وفي كلّ ذكرى لواقعة الطفّ الدامية المفجعة .
محتويات الخطاب
وحلّلنا محتويات خطاب العقيلة في كتابنا (حياة الإمام الحسين) ، وننقله لما فيه من مزيد الفائدة ، وهذا نصّه : وكان هذا الخطاب العظيم امتداداً لثورة كربلاء ، وتجسيداً رائعاً لقيمها الكريمة وأهدافها السامية ، وقد حفل بما يلي :
أولاً : إنّها دلّلت على غرور الطاغية وطيشه ؛ فقد حسب أنّه هو المنتصر بما يملك من القوى العسكريّة التي ملأت البيداء ، وسدّت آفاق السماء ، إلاّ أنّه انتصار مؤقّت . ومن طيشه أنّه حسب أنّ ما أحرزه من الانتصار كان لكرامته عند الله تعالى ، وهوان لأهل البيت (عليهم السّلام) ، ولم يعلم أنّ الله إنّما يملي للكافرين في الدنيا من النعم ليزدادوا إثماً ، ولهم في الآخرة عذاب أليم .
ثانياً : إنّها نعت عليه سبيه لعقائل الوحي ، فلم يرعَ فيهم قرابتهم لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وهو الذي منَّ عليهم يوم فتح مكة فكان أبوه وجدّه من الطلقاء ، فلم يشكر للنبي (صلّى الله عليه وآله) هذه اليد ، وكافئه بأسوأ ما تكون المكافئة .
ثالثاً : إنّ ما اقترفه الطاغية من سفكه لدماء العترة الطاهرة فإنّه مدفوع بذلك ؛ بحكم نشأته ومواريثه ، فجدّته هند هي التي لاكت كبد سيّد الشهداء حمزة ، وجدّه أبو سفيان العدوّ الأول للإسلام ، وأبوه معاوية الذي أراق دماء المسلمين ، وانتهك جميع ما حرّمه الله ، فاقتراف الجرائم من عناصره وطباعه التي فطر عليها .
رابعاً : إنّها أنكرت عليه ما تمثّل به من الشعر الذي تمنّى فيه حضور شيوخه الكفرة من الأمويِّين ؛ ليروا كيف أخذ بثأرهم من النبي (صلّى الله عليه وآله) بإبادته لأبنائه ، إلاّ أنّه سوف يرد موردهم من الخلود في نار جهنم .
خامساً : إنّ الطاغية بسفكه لدماء العترة الطاهرة لم يسفك إلاّ دمه ، ولم يفرِ إلاّ جلده ؛ فإنّ تلك النفوس الزكية حيّة وخالدة ، وقد تلفّعت بالكرامة ، وبلغت قمّة الشرف ، وإنّه هو الذي باء بالخزي والخسران .
سادساً : إنّما عرضت إلى مَنْ مكّن الطاغية من رقاب المسلمين ، فهو المسؤول عمّا اقترفه من الجرائم والموبقات ، وقد قصدت (سلام الله عليها) مغزى بعيداً يفهمه كلّ مَنْ تأمّل فيه .
سابعاً : إنّها أظهرت سموّ مكانتها وخطر شأنها ؛ فقد كلّمت الطاغية بكلام الأمير والحاكم ؛ فاستهانت به ، واستصغرت قدره ، وتعالت عن حواره ، وترفّعت عن مخاطبته ، ولم تحفل بسلطانه . لقد كانت العقيلة على ضعفها وما ألمّ بها من المصائب أعظم قوّة وأشدّ بأساً منه .
ثامناً : إنّها عرضت إلى أنّ يزيد مهما بذل من جهد لمحو ذكر أهل البيت (عليهم السّلام) ، فإنّه لا يستطيع إلى ذلك سبيلاً ؛ لأنّهم مع الحقّ ، والحقّ لا بدّ أن ينتصر . وفعلاً فقد انتصر الإمام الحسين (عليه السّلام) ، وتحوّلت مأساته إلى مجد لا يبلغه أيّ إنسان كان ، فأيّ نصر أحقّ بالبقاء وأجدر بالخلود من النصر الذي أحرزه الإمام (عليه السّلام) ؟
هذا قليل من كثير ممّا جاء في هذه الخطبة التي هي آية من آيات البلاغة والفصاحة ، ومعجزة من معجزات البيان ، وهي إحدى الضربات التي أدّت إلى انهيار الحكم الأموي .
شكل القرآن الكريم (3)
الدكتور محمد حسين علي الصغير
حقّانية المثنّى كمبدأ أنطولوجي (6)
محمود حيدر
الاعتراف بالذنوب يقرّبنا إلى الله
الشيخ محمد مصباح يزدي
طرق الوقاية والعلاج من حبّ الدنيا
الشيخ مجتبى الطهراني
الهداية والإضلال
الشيخ شفيق جرادي
كيف ننمّي الذكاء الاجتماعي في أولادنا؟
السيد عباس نور الدين
الذنوب التي تهتك العصم
السيد عبد الأعلى السبزواري
كلام في الإيمان
السيد محمد حسين الطبطبائي
الإسلام أوّلاً
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
لا تجعل في قلبك غلّاً (2)
السيد عبد الحسين دستغيب
السيدة الزهراء: حزن بامتداد النّبوّات
حسين حسن آل جامع
اطمئنان
حبيب المعاتيق
أيقونة في ذرى العرش
فريد عبد الله النمر
سأحمل للإنسان لهفته
عبدالله طاهر المعيبد
خارطةُ الحَنين
ناجي حرابة
هدهدة الأمّ في أذن الزّلزال
أحمد الرويعي
وقف الزّمان
حسين آل سهوان
سجود القيد في محراب العشق
أسمهان آل تراب
رَجْعٌ على جدار القصر
أحمد الماجد
خذني
علي النمر
شكل القرآن الكريم (3)
حقّانية المثنّى كمبدأ أنطولوجي (6)
السيدة الزهراء: حزن بامتداد النّبوّات
الزهراء عليها السّلام إشراقات مباركة
(سنابل يوسف) جديد الكاتب عبدالعزيز آل زايد
واحد وثلاثون عملاً للحبارة في تحدّي (إنكتوبر 2025)
الاعتراف بالذنوب يقرّبنا إلى الله
طرق الوقاية والعلاج من حبّ الدنيا
أظافر قدميك تكشف إذا كنت تعرضت لسبب غير مرئي لسرطان الرئة
شكل القرآن الكريم (2)