مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

دعائم الأخلاق (1)

إذا شبّهنا الأخلاق بشجرة باسقةٍ مثمرةٍ، معرضةٍ للآفات والأخطارِ، فدعامتها الأخلاقيّة يمكن أن نُشبّهها بالفلّح ، أو الماء الذي يجري من تحتها، ولولا الماء والفلّاح ليَبِست تلك الشّجرة، أو لأصيبت بأنواع الآفات والأمراض، حتى تموت أو يغدو ثمرها قليلاً.

وقد اختلف علماء الأخلاق والفلاسفة، في صياغة الدّعائم الأساسيّة للأخلاق بشكلٍ كبيرٍ، فكلُّ مجموعةٍ تذكر آراءها ونظراتها حول المسألة، تبعاً لرأيها ونظرتها في مسألة معرفة العالم. ونشير هنا إلى عدّة نماذج مهمّة:

 

1 ـ دعامة الانتفاع

يوصي البعض بالأخلاق، لأنّها تعود على الإنسان بالنّفع المادّي المباشر، فمثلاً تُراعي إحدى المؤسّسات الاقتصادية، أصل الأمانة والصّدق بشكلٍ دقيقٍ جدّاً، وتعطي المعلومات الواقعيّة لزبائنها بدون أيِّ تلاعب، فمثل هذه المؤسّسة ستكون بعد سنوات، مورد ثقة النّاس ومحل اعتمادهم، ما سيعود عليها بالنّفع الكبير الطّائل.

وبناءً على ذلك، قد يتحرك الأشخاص في سلوكهم الأخلاقي، كلٌّ حسب موقعه. فمثلاً عندما يكون موظّف في المصرف أو البنك، فهو يُراعي منتهى الأمانة والدّقة، لكي يعود على البنك بالنّفع الكبير، ولكن يمكن أن يتحول إلى خائن، بمجرد أن يضع قدمه خارج المصرف، لأنّ فائدته ستكون في الخيانة حينها.

وقد نرى تاجراً، يحرص أن يكون في منتهى الأدب واللّطف واللّياقة مع زبائنه، لأجل كسب المزيد منهم، ولكنّه مع عائلته وأولاده، يكون في منتهى الفظاظة، لا لشيء إلّا لأنّ الأخلاق الحسنة مَحلُّها في محلّ عمله، وستعود عليه بالنّفع المادي الأكثر.

فمثل هذه الأخلاق لا دعامة لها، إلّا النّفع والاستغلال، وأهمّ عيبٍ في المسألة، هو أنّه لا يعير للأخلاق أهميّةً ولا أصالةً، لأنّه يستمر في استغلاله، سواءً كان عن طريق الأخلاق، أم بعقيدته التي هي ضدّ الأخلاق.

وذهب البعض الآخر إلى صياغة حكمة معدّلة لهذا النمّط من الأخلاق، ونادوا بالأخلاق لا من أجل المصالح الشّخصيّة، ولكن لتعود على مصلحة البشر جميعاً، لاعتقادهم بأنّ الأسس الأخلاقيّة إذا تزلزلت في المجتمع، فستتحول الحياة إلى جهنّم تحرق كلّ شيء، وستتحول أدوات الإلفة والتعاون في المجتمع، إلى حطب يُبقي النار مشتعلة، في حركة الواقع الاجتماعي المضطرب.

هذا النّوع من التّفكير يعتبر أرقى من سابقه، ولكنّ الأخلاق هنا مجرد وسيلةٍ لجلب النّفع والرّاحة والرّفاه، ولا أساس للفضائل الأخلاقية فيها.

فالماديّون لا يمكنهم أن يتجنبوا مثل هذا النوع من التّفكير، لأنّهم لا يعتقدون بالوحي ولا نبوّة الأنبياء، وينزلون بالأخلاق من السّماء إلى الأرض، ويجعلونها مجرد وسيلة للانتفاع والرّاحة والاستغلال لا أكثر.

ولا شكَّ ولا ريب، في أنّ الأخلاق لها مثل هذه المعطيات الماديّة الإيجابية، في وعي الناس كما أشرنا سابقاً، ولكن السّؤال هو: هل أنّ أسس ودعائم الأخلاق، تنحصر في هذه المرتكزات الماديّة، أو أنّ مثل هذه المرتكزات والمعطيات، يجب أن تُدرس على أساس أنّها من المسائل الجانبيّة، والمتفرّعة على علم الأخلاق؟.

وعلى أيّة حال، فإنّ الإيمان بالأخلاق الّتي يكون أساسها النّفع والاستغلال، يخدش أصالة الأخلاق، ويقلل من قيمتها وقدسيّتها، ومن ناحيةٍ أخرى فإنّ الإنسان في حالة تقاطع مصلحته مع الأخلاق، فإنّه سيضرب بالأخلاق عَرض الحائط، ويتّبع مصلحته الشخصيّة، الّتي اعتبرها دعامته وأساسه، في حركة السّلوك الاجتماعي والأخلاقي.

 

2 ـ الدّعامة العقليّة

الفلاسفة الّذين يعتقدون بحكومة العقل ولزوم اتّباعِه في كلّ شيء، يعتبرون دعامة الأخلاق هي إدراك العقل: للقبيح والحسن من الأفعال والصّفات الأخلاقيّة، فمثلاً يقولون إنّ العقل يُدرك جيّداً أنّ الشّجاعة فضيلة والجبن رذيلة، والأمانة والصّدق فضيلة وكمال، والخيانة والكذب نقصان، ونفس إدراك العقل لها، هو الباعث والمحرّك لاتّباع الفضائل وترك الرذائل.

وقال البعض الآخر، إن إدراك الوجدان هو الأساس، فيقولون: إنّ الوجدان وهو العقل العملي، أهمّ شيء في الإنسان، لأنّ العقل النّظري يمكن أن يُخطئ، ولكن الوجدان والضّمير ليس كذلك، وبإمكانه أن يقود البشريّة إلى ساحل الأمن والسّعادة.

وعليه، وبما أنّ الوجدان يقول: إنّ الأمانة والصّدق والإيثار، والسّخاء، والشّجاعة هي أمور حسنةٌ وجيّدةٌ، فهو بمفرده يكون دافعاً ومُحرّكاً، نحو نيل تلك الأهداف والفضائل.

وكذلك بالنّسبة للبُخل، والأنانيّة وأمثالها، فإنّ الوجدان يقول إنّها قبيحة، وذلك يكفي في الارتداع عنها وتركها.

وهنا تتحد الدّعامة العقلية والوجدانيّة، فهما تعبيران مختلفان لحقيقة واحدة.

ولا شكّ أنّ وجود هذا الأساس والدّعامة للأخلاق، لا يخلو من حقيقة، وهو في حدّ ذاته دافع حسن للسّعي إلى تربية النّفوس، وترشيد الفضائل الأخلاقية، في واقع الإنسان والمجتمع.

ولكن وبالنّظر إلى موضوع الوجدان، فإنّ الوجدان يمكن أن يخدع، هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرَى: إنّ الوجدان وبالتّكرار لفعل القبائح والرّذائل، فإنّه سيأنس بها ويتعوّد عليها، بل قد يفقد الحسّاسيّة بالكامل تجّاه هذه الأمور، أو يتحرك في إدراكه لها، من موقع التأييد للرذائل على حساب اهتزاز الفضائل.

ومن جهةٍ ثالثة، إنّ الوجدان أو العقل العملي، رغم أهميّته وقداسته، فإنّه كالعقل النّظري قابل للخطأ، ولا يمكن الاعتماد عليه وحده، بل يحتاج إلى أسس ودعامات أقوى، يُطمَأنّ إليها في تشخيص الحُسن والقُبح، بحيث لا يمكن خُداعها ولا تخطئتها، ولا تتأثر بالتّكرار، ولا تتغيّر أو تتحول.

وخلاصة الأمر: إنّ الوجدان الأخلاقي، أو العقل الفطري والعقل العملي، أو أيّ تعبيرٍ آخر يُعبّر عنه، هو أساسٌ ودعامةٌ جيَّدة، ولا بأس بها لنيل الفضائل الأخلاقيّة، ولكن وكما أشرنا آنفاً، تعوزه بعض الأمور، ولا يُكتفى به وحده.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد