مقالات

حضور القلب أهم الآداب المعنوية للعبادات (1)

 

إنّ حضور القلب يعني اهتمامه وتوجّهه إلى العالم المعنويّ. وإنّ العالم المعنويّ الذي يمثّل حياة القلوب يتجلّى بالمعارف الإلهيّة. فإذا وصل القلب مع هذه الحقائق إلى درجة اليقين والشهود، يصبح صاحبه من أهل تلك العوالم وسكّانها. لهذا كان التوجّه إلى الحقّائق هو بداية السّير نحو العوالم الغيبية.

يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "من الآداب القلبيّة المهمّة الذي يمكن أن يكون كثير من الآداب مقدّمة له، والعبادة بدونه ليس لها روح، وهو بنفسه مفتاح قفل الكمالات وباب أبواب السّعادات، وقلّما ذُكر في الأحاديث الشّريفة شيء بهذه المثابة، وقلّما اهتُمّ بشيء من  الآداب كهذا الأدب، حضور القلب".

 

أهمّيّة حضور القلب

يغفل البعض عن أهمّيّة حضور القلب في العبادات عندما يتصوّر أنّ تحصيله صعب وثقيل. ولأنّهم لم يعرفوا معنى العبادة وحقيقتها، ظنّوا أنّ مجرّد أداء بعض الحركات والتلفّظ ببعض الكلمات يمكن أن يعطي نتيجته المرجوّة، ولهذا يقوم الإمام الخمينيّ قدس سره بتشريح تفصيليّ لمعنى العبادة من خلال الإشارة إلى نتائجها والتي تحصل وفق المراحل الآتية:

1- توحيد سلطة النفس:

"كما ذكرنا سابقًا، بأنّ العبادات والمناسك والأذكار والأوراد إنّما تنتج نتيجة كاملة إذا صارت صورة باطنيّة للقلب، وتخمّر باطن ذات الإنسان بها، وتصوّر قلب الإنسان بصورة العبوديّة، وخرج عن الهوى والعصيان. وذكرنا أيضًا أنّ من أسرار العبادات وفوائدها أن تتقوّى إرادة النفس وتتغلّب النفس على الطبيعة، وتكون القوى الطبيعية مسخّرة تحت قدرة النفس وسلطنتها، وتكون إرادة النفس الملكوتيّة نافذة في ملك البدن، بحيث تكون القوى بالنسبة إلى النفس كملائكة الله بالنسبة إلى الحقّ تعالى ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ﴾، ﴿وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾.

2- خضوع إرادة النفس لإرادة الله:

"ونقول الآن: إنّ من أسرار العبادات وفوائدها المهمّة التي تكون بقيّة الفوائد مقدّمة لها، أن تكون مملكة البدن بجميعها، ظاهرها وباطنها، مسخّرة تحت إرادة الله، ومتحرّكة بتحريك الله تعالى، وتكون القوى الملكوتيّة والملكيّة للنفس من جنود الله، وتكون كلّها كملائكة الله.

وهذه من المراتب النازلة لفناء القوى والإرادات في إرادة الحقّ".

3- تبدّل الهويّة إلى الربّانيّة:

"ويترتّب على هذا بالتدريج النتائج العظيمة، ويصبح الإنسان الطبيعيّ إلهيًّا، وتكون النفس مرتاضة بعبادة الله، وتنهزم جنود إبليس بشكل نهائيّ وتنقرض، ويكون القلب مع قواه مسلّماً للحقّ، ويبرز الإسلام ببعض مراتبه الباطنيّة في القلب، وتكون نتيجة هذا التسليم لإرادة الحقّ في الآخرة أنّ الحقّ تعالى ينفّذ إرادة صاحب هذا القلب في العوالم الغيبيّة، ويجعله مثلًا أعلى لنفسه. فكما أنّه تعالى وتقدّس يُوجد كلّ ما أراد بمجرّد الإرادة، يجعل إرادة هذا العبد أيضًا كذلك، كما روى بعض أهل المعرفة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وصف أهل الجنّة أنّه يأتيهم ملك فيستأذن للدخول عليهم، وبعد الاستئذان يدخل فيبلّغ السلام من الله تعالى عليهم، ويعطي كلّاً منهم رسالة مكتوباً فيها: من الحيّ القيّوم الذي لا يموت إلى الحيّ القيّوم الذي لا يموت، أمّا بعد، فإنّي أقول للشيء كن فيكون، وقد جعلتك تقول للشيء كن فيكون، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "فلا يقول أحد من أهل الجنّة للشيء كن، إلّا ويكون" وبعد ذكر هذه النتائج والثمار وما يحصل في رحلة السالك العباديّة يبيّن الإمام قدس سره أنّ كلّ ذلك موقوف على أمرٍ واحد، وهو حضور القلب، فيقول قدس سره: "وهذه هي السلطنة الإلهيّة التي تعطى للعبد لأجل تركه إرادة نفسه وترك سلطنة الأهواء النفسانيّة وإطاعة ابليس وجنوده، ولا تحصل كلٌّ من هذه النتائج المذكورة إلّا بالحضور الكامل للقلب".

 

آثار غفلة القلب

في مقابل حضور القلب هناك الغفلة والسّهو عن العبادة وعن أسرارها ومعانيها. فما الذي يمكن أن يحصل في حال أهمل العابد قضية تحصيل حضور القلب، يجيب الإمام الخمينيّ قدس سره قائلًا: "وإذا كان القلب في وقت العبادة غافلًا وساهيًا، لا تكون عبادته حقيقيّة، بل تشبه اللهو واللعب، ولا يكون لمثل هذه العبادة أثر في النفس البتّة، ولا تتجاوز العبادة من الصورة والظاهر إلى الباطن والملكوت، كما أشير إلى ذلك في الأحاديث، ولا تكون القوى النفسانيّة بمثل تلك العبادة مسلمة للنفس، ولا تظهر سلطنة النفس لها، كذلك القوى الظاهريّة والباطنيّة لا تكون مستسلمة لإرادة الله، ولا تنقهر المملكة تحت كبرياء الحقّ كما هو واضح جدًّا.

 

ولذا، ترون أنّه بعد مضيّ أربعين أو خمسين سنة لا يحصل أثرٌ في أنفسنا، بل تزداد يومًا فيومًا ظلمة القلب، ويزيد اشتياقنا إلى الطّبيعة وإطاعتنا للأهواء النفسانيّة والوساوس الشيطانيّة آناً فآناً. وليس هذا كلّه إلّا من جهة أنّ عبادتنا قشور بلا لبّ، وفاقدة للشرائط الباطنيّة والآداب القلبيّة. هذا، في حين أنّنا نرى كتاب الله سبحانه قد نصّ على أنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهذا النهي ليس صوريّا البتّة، بل لا بدّ من مصباح يزهر في القلب، ويضيء نور في الباطن يهدي الإنسان إلى عالم الغيب، ويوجِد زاجرًا إلهيًّا ينهى الإنسان عن العصيان والتمرّد.

وها نحن أولاء نحسب أنفسنا في زمرة المصلّين، وقد مضت علينا سنون ونحن مشتغلون بهذه العبادة العظيمة، ومع ذلك لا نرى في أنفسنا هذا النور، ولا نجد في باطننا هذا الزاجر والمانع...".

 

أحاديث في الترغيب في حضور القلب

لا شكّ أنّ الإنسان يحتاج إلى وجود دافع قويّ في نفسه من أجل السعي على طريق تحصيل حضور القلب، لما ذكرنا من أنّه أمر صعب وثقيل لمن كان قلبه غافلًا رَدَحًا من الزمن، وقضى عمره بعيدًا عن هذه التوجّهات. وهنا تأتي الأحاديث الشريفة لترغيبنا وحثّنا على الاهتمام بحياتنا المعنويّة. وقد ذكر الإمام بعض هذه الأحاديث، فقال قدس سره: "في ذكر باقة من أحاديث أهل البيت العصمة والطهارة عليهم السلام في الترغيب في حضور القلب، فعن الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم: "اعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك".

 

يستفاد من هذا الحديث مرتبتان من مراتب حضور القلب:

الأولى: أنّ السالك يكون مشاهدًا جمال الجميل، ومستغرقًا في تجلّيات حضرة المحبوب على نحو تكون جميع مسامع قلبه مسدودة عن سائر الموجودات، وتكون بصيرته مفتوحة على جمال ذي الجلال الطاهر ولا يشاهد غيره. وبالجملة، يكون مشغولًا بالحاضر وغافلًا عن المحضر والحضور.

وإلى هذا أشير في الحديث الذي رواه أبو حمزة الثمالي (رضي الله عنه)، قال: "رأيت عليّ بن الحسين عليه السلام يصلّي، فسقط رداؤه عن منكبه، فلم يسوّه حتى فرغ من صلاته، قال: فسألته عن ذلك، فقال: "ويحك، أتدري بين يديّ من كنت؟!".

والثانية: التي هي دون تلك المرتبة، أن يرى السالك نفسه حاضرًا في محضره، ويلاحظ أدب الحضور والمحضر.

فكأن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن كنت تستطيع أن تكون من أهل المقام الأوّل، وتأتي بعبادة الله على ذلك النحو فافعل، وإلّا فلا تغفل عن أنّك في المحضر الربوبيّ. ولمحضر الحقّ تعالى أدب، تكون الغفلة عنه لا محالة بعدًا عن مقام العبوديّة.

كتاب الآداب المعنوية للصلاة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة