د. جاسم العلوي ..
… إنَّ الغموضَ الذي لفَّ نظرية أرسطو في العقل، دفع بشراح أرسطو لسد النقص، وهو ذاته الأمر الذي دفع ابن رشد الفيلسوف الإسلامي الكبير أحد كبار شراح أرسطو في وضع نظرية متكاملة عن العقل تعتبر أشد فلسفته ابتكاراً وتمايزاً عمَّن سبقه من الفلاسفة. يُقيم ابن رشد نظريته في العقل بالتحديد الدقيق لمعنى العقل؛ فالعقل عنده هو ذات المعقول من جهة كونه معقولًا، وينصُّ في كتابه “تهافت التهافت” على هذا المعنى؛ فيقول: “وكان العقل ليس شيئاً كثيراً من إدراك المعقولات” (1)، ويُعلَّل هذا التحديد لمعنى العقل عنده على أساس أنَّ الموجود الذي ليس بجسم هو ذاته عقل؛ فيقول: “والسبب في ذلك أنَّ العقل عندما يُجرد صور الأشياء المعقولة من الهيولى، ويقبلها قبولا غير هيولاني، يعرض له أن يعقل ذاته؛ إذ كانت ليست تصير المعقولات في ذاته من حيث هو عاقل بها على نحو مباين؛ لكونها معقولات أشياء خارج النفس” (2). ومعنى هذا النصُّ أنَّ العقل -باعتباره مفارقًا للمادة- يقوم بتجريد صور المحسوسات المادية، وهو بهذا التجريد يعقلها؛ لأنها أصبحتْ مفارقة للمادة. فإذا كانت الصور المادية بالتجريد تصير عقلًا وعلمًا، فإنَّ من كانت حقيقته مُجرَّدة أوْلَى أن يكون بالتعقل عقلاً وعلمًا. يقول ابن رشد في كتابه “تهافت التهافت” -تأكيدا على هذا المعنى- “ولمَّا كانت معقولات الأشياء هي حقائق الأشياء، وكان العقل ليس شيئًا أكثر من إدراك المعقولات، كان العقل منا هو المعقول بعينه من جهة ما هو معقول… فإنْ ألفى شيئاً في غير مادة فالعقل منه هو المعقول من جميع الجهات، وهو عقل المعقولات” (3).
ويترتَّب على هذه الثنائية أنَّ الفكر -بما هو مُفارق للمادة- هو الصانع لمسيرة الإنسان في التاريخ؛ فهناك إذن دائرة أكبر من الوجود تُحيط بدائرة الوجود المادي، وتقف خلف حركة الإنسان التاريخية على الأرض. إذن؛ عالم الفيزيقا تحمله الميتافيزيقا المتوارية عن الحس، كما يقول ديكارت، والتي نستيقن حقيقتها بالتعقل. إذ إنَّ الأحكامَ الذي يُصدرها العقل هي لون من النشاط الذهني التي لا ترد إلى الذهن عن طريق الحواس. كما أنَّ التفكير في الفكر نفسه؛ حيث يكون طرفا القضية الموضوع والمحمول، ليسا من الوقائع الحسية هو أحد دلائل الصدق على ثنائية العقل والمادة.
وتؤكِّد نظرية المعرفة عند بعض الفلاسفة الأوربيين، وكذلك عند فلاسفة الإسلام، أنَّ النفسَ هي محض استعداد، وأن الإدراكات الجزئية الحسية سابقة على الإدراك العقلي الكلي. وأنَّ العقل يصوغ مفاهيمه الكلية من خلال الصور الحسية. يَرَى الحكماء الإسلاميون أنَّ العقل ينتزع من هذه الصور الحسية مفاهيم كلية يسمونها المعقولات الأولية كالإنسان، الشجرة، الحيوان…إلخ. ثم يقومُ بعملية انتزاعية ثانية ينتزع بها من هذه المعقولات الأولية معقولات ثانية تشكل معظم مقولات الفلسفة والمنطق كالوحدة، الكثرة، العلية، الإمكان…إلخ (4). هذا يعني أنَّ العلاقة بين دائرتي الوجود المادية وغير المادية -الفيزيقا والميتافيزيقا- لا تسير في اتجاه واحد، بل إنَّ هناك علاقة وثيقة ومتبادلة بينهما يُشكل العالم الفيزيقي فيها المادة الأولية للفكر.
الوضعية المنطقية الجديدة.. ومحاولة حذف الميتافيزيقا
المدرسة الوضعية التي أسَّس لها أوجست كونت، في القرن التاسع، اعتبرت أنَّ البشرية قد تجاوزتْ مرحلة الميتافيزيقا كليًّا، بعد أنْ وصلت إلى المرحلة الوضعية أو العلمية. أما الوضعية المنطقية الجديدة، أو التجريبية المنطقية -كما أسماها كارناب، أحد أبرز رواد هذا التيار الفكري- ترى أنَّ العلمَ يحملُ في طياته مشكلات ميتافيزيقية. لذلك؛ يجب العمل على تطهير العلوم من هذه القضايا الميتافيزيقية التي تتسرَّب إليها من خلال الفحص المنطقي الدقيق للغة العلوم المستخدمة. وتقصر هذه المدرسة المعارف المشروعة إلى العلم الرياضي والعلم الطبيعي. التجربة في الرُّؤية الفلسفية لهذه المدرسة هي المصدر الوحيد للمعرفة، لكن ما يُميِّز هذه المدرسة عن التجريبيين الإنجليز هو قولها بإمكان بلوغ اليقين في الميدان العلمي والفلسفي. وهذا الإمكان قائم إذا ما التزمنا التقيد الصارم بالمنطق الصوري.
المدرسة الوضعية الجديدة، واستمراراً للتيار الفلسفي الحسي، جعلتْ الحس وكل ما يدخل في نطاق الخبرة الحسية الحد الذي يفصل العلوم عن الميتافيزيقا (5). وهذا الحدُّ قائمٌ على أساس أنَّ الميتافيزيقا كلام فارغ خالية من المعنى؛ فالكلام إمَّا يكون صادقًا أو كاذبًا وعندما لا يكون الكلام لا هذا ولا ذاك، فهو كلام لا معنى له.
والميتافيزيقا تُنتج كلاماً لا يُمكن الحُكم عليه بالصدق أو الكذب، وبهذا تكون خالية من المعنى. والكلام الذي يحمل معنى هو ما يُمكن أن نتحقق منه بواسطة التجربة، أو هو الكلام المبني على فروض العلم الرياضي. ورغم أنَّ المنهجية العلمية في الرياضيات تختلف عنها في العلوم الطبيعية، إلا أنَّ كلًّا منهما يُمكن التحقق من صحة القضايا التي يشتغلون بها. فبالإمكان التحقُّق من صحة القضية في العلم الطبيعي بواسطة التجربة وبصحة القضية الرياضية، بواسطة الرجوع إلى الفروض الأولى، والتأكد من سلامة وتماسك بنائها المنطقي. وبهذا؛ تحصر الوضعية المنطقية المعرفة الإنسانية في العلم الرياضي والعلوم الطبيعية على أساس أنها تعطي مفاهيم ذات معنى. لقد حصرت الوضعية المنطقية وظيفة الفلسفة في التحليل اللغوي للقضايا العلمية، وجعلتْ مهمة الفلسفة في التأكد من أنَّ الصيغة التي تكتب بها هذه العلوم تحمل مَعَاني يُمكن الحكم عليها بالصدق أو الكذب. وليس من وظيفة الفلسفة الحكم على الأشياء بالإيجاب أو السلب، فتلك وظيفة العلوم في التحقق من صدق القضايا أو كذبها. ما يهمُّ الفلسفة هو البناء المنطقي للغة العلوم؛ بحيث يتمكَّن العالم من الحكم. فنحن عندما نقول على سبيل المثال “إنَّ الحديد يتمدَّد بالحرارة”؛ فهذه عبارة ذات معنى؛ لأنَّها تدخل دائرة المحسوسات، ويُمكن الحكم عليها بالصدق أو الكذب بالتجربة. العبارة الرياضية مبنيَّة على فروض رياضية وهذه الفروض تنتهي إلى نتائج رياضية، وعندما يتأكد الرياضي من دقة الالتزام بهذه الفروض، فإن في مقدوره الحكم بصدق أو كذب هذه العبارة. لكن إذا قلنا على سبيل المثال: “الخير غاية الوجود”؛ فهذه -كما يدعي أصحاب هذا التيار- ليست جُملة نتمكَّن من الحكم عليها سلباً أو إيجاباً؛ لأننا لا نمتلك وسائل التحقق من صحتها. فهي لا تحوي مضموناً حسيًّا حتى نتحقَّق منه بإقامة التجربة وليست ذات مضمون رياضي حتى نردها لفروضها الأولى التي أنتجتها. وبذلك تكون جُملة خالية من المعنى، وبهذا تصبح الميتافيزيقا خرافة.
لقد حَاوَل “كانت” في كتابه “نقد العقل الخالص” أنْ يَضَع الشروطَ التي تجعل من الميتافيزيقا علماً يُوازي العلم الرياضي والعلم الطبيعي. لكنَّه انتهى به التحليل إلى أنَّ الميتافيزيقا تعمل خارج حُدود العقل النظري. ومن هنا، لا يُمكن الحكم عليها. ولكن لا يَعْني ذلك عدم القدرة على إسباغ الحكم عليها أنَّه لا يُمكن الحديث عنها. وهنا يفترق “كانت” عن الوضعية المنطقية في أنَّ الأخيرة تنفي إمكانية الحديث في الموضوعات المتعلقة بالميتافيزيقا؛ لأنَّ الحديثَ عنها لا يتَّسم بالصدق أو الكذب. يَرَى “كانت” أنَّ الميتافيزيقا تستعصي على العقل النظري أن يفهمها ولو تغيَّر هذا العقل كأن أصبح لديه القدرة على فهم الموضوعات الخارجة عن دائرة العلم الرياضي والطبيعي، فلم يعُد مُستحيلا عليه إدراكها. أمَّا المنطق الوضعي، فيرى الاستحالة استحالة منطقية؛ ذلك لأنَّ البنية المنطقية للغة المستخدمة خالية من المعنى. وأرادَ أصحابُ هذا الاتجاه تفسير مهمة الفلسفة في التاريخ حَصْرا في التحليل اللغوي. إذ لم تُعط الفلسفة على طول التاريخ حكماً سلبيًّا أو إيجابيًّا في مُختلف القضايا(6).
… إنَّ هذا التفسير يتنافى مع الثوابت التاريخية لحركة الفكر الفلسفي؛ فالفلسفة قد تطرَّقت إلى النفس كجوهر، وتناولت مسألة خلودها كما تطرَّقت للعقل ومراتبه، وعن المعرفة الإنسانية وقضايا كثيرة، وكانت مُهمتها الكشف عن الحقيقة فيما يتعلَّق بهذه القضايا. ولم تكن وظيفة الفلسفة على الإطلاق محصورة في ضبط العبارة اللغوية ضبطاً صوريًّا حتى تغدو ذات معنى ثم يترك الحكم بصدقها وكذبها ليس على الفيلسوف، بل على علماء الطبيعة والرياضيات. لقد مارستْ الفلسفة في التاريخ دوراً رياديًّا في مُحاولة فهم العالم وبيان حقيقة الوجود. وكانت اللغة بالنسبة للفلسفة ذات وظيفة أداتية يتم استخدامها لتوصيل معنى الحقيقة ووسيلة للتعبير عن فكر الفيلسوف. لقد قلبتْ الوضعية الجديدة المهام، وأضحتْ مُهمة الفلسفة كنشاط إنساني مارسه الإنسان منذ آلاف السنين أن تكون أداة ضبط لغوي، ولا علاقة لها بالحقيقة من قريب أو بعيد. إنَّ الحقيقة عند المنتمين لهذا التيار بما هي كاشفة عن الواقع ليس ذات أهمية؛ لأنَّ المهم هو كيف نتحدث عن العالم بواسطة اللغة.
يرفض كارل بوبر أنْ تختزل قضايا الفلسفة في مُشكلات لغوية، أو في تحليل العبارات المنطقية. ويَرَى هذا الفيلسوف أنَّ الفلسفة التي تهتم بمشكلات اللغة هي فلسفة تهتم بأشباه المشكلات، يعني أنَّها تهتم بمشكلات غير حقيقية. لقد اهتمَّ هذا التيارُ الوضعيُّ بالبحث عن الكلمات التي تعطي معنى دقيقًا وصارمًا؛ وذلك من أجل تعريف المفهوم باستخدام هذه الكلمات ذات المعنى الدقيق. وينظرُ بوبر إلى عدم جدوى هذه المحاولات؛ لأنَّ تعريف أي مفهوم يحتاج إلى ألفاظ جديدة هي بدورها تحتاج إلى تعريف، وقد أطلق على هذه العملية عملية “التراجع النهائي” (7). إنَّ بوبر يَرَى أنَّ وُضُوح المفاهيم، ورفع الغموض عنها، ليس مبدأ علميًّا ومعرفيًّا، بل هو مبدأ أخلاقي. لقد قدَّم كارل بوبر نظرية أداتية في اللغة، رافعًا عن الفلسفة مهمتها توضيح الألفاظ ومتمسكًا بدورها في بيان الحقيقة. يقول كارل بوبر: “أنا لا أرى الفلسفة هي الألغاز اللغوية، ولو أنَّ إزالة سوء الفهم قد تكون أحيانًا مهمة أولى وضرورية… إنَّ المفاهيم أو الكلمات مُجرَّد أدوات لصياغة القضايا والافتراضات الحدسية والنظريات؛ فالمفاهيم أو الكلمات لا يُمكن أن تكون صحيحة في ذاتها، إنَّها تخدمُ لغتنا الوصفية والجدلية أو الحجاجية. لا يجُوْز أنْ يكون هدفنا هو تحليل المعاني، وإنَّما البحث عن حقائق مثيرة ومهمَّة، أي عن نظريات حقيقية” (8).
ـــــــــ
1- المصدر السابق، ص:281.
2- المصدر السابق، ص:281-282.
3- المصدر السابق، ص:282.
4- السيِّد مُحمَّد حسين الطباطبائي، “أصول الفلسفة والمذهب الواقعي”، تقديم وتعليق مرتضى المطهري، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، ص:309-310.
5- Karl Popper, Conjectures and Refutations, Routledge, p. 341 .
6- د.زكي نجيب محمود، “موقف من الميتافيزيقا”، دار الشروق، ص:28-34.
7- “الفلسفة واللغة: نقد المنعطف اللغوي في الفلسفة المعاصرة”، دار الطليعة، بيروت، ص:97.
8- المصدر السابق، ص:97.
عدنان الحاجي
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ محمد مهدي الآصفي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد باقر الصدر
السيد عادل العلوي
السيد محمد باقر الحكيم
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (5)
الزهراء.. الحزن الأبدي
ذاكرة التفاصيل لا يكتمل بلوغها إلا في سن المراهقة عند الأطفال
الصّحيفة الفاطميّة
السّعيد محاضرًا حول آليّات التّعامل الإيجابيّ مع الإنترنت والوسائل الرّقميّة
منتظرون بدعائنا
الشيخ صالح آل إبراهيم: ما المطلوب لكي يكون الزواج سعيدًا؟
آيات الأنفس الأولى
فرضية القائلين بالتكامل، وعدم وجود الحلقة المفقودة
الربّانية في ساحة الصراع