مقالات

الحجّ عرفــة (2)

 

جوهره حُسنُ الظنّ بالله تعالى
 لزوم الصدق في الطلب
أيها العزيز، هذه عرفة، والحجّ عرفة، والقلب الضعيف لا يقوى على نور مصابيح كاشفة، فكيف يقوى على كلّ هذا التوهّج الفريد، وفيض النور الإلهي الأبهى، النور المحمّدي والكوكب الدري، والعظمة الزاهرة التي اشتقّت من نور عظمة الله تعالى.
ها هي الزيتونة المباركة التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور.
وها هو القلب المربد طخية الديجور.
ولا كلام لي ولك أيها العزيز، ولا بنت شفة. بل العجز المفرط ذاتي، فهل تلازمه مصداقية الاعتراف القلبي بهذا العجز؟
أمرَنا ربُّنا الرؤوف الرحيم إذا ظلمنا أنفسنا أن نقف بباب من جعله الله تعالى الرؤوف الرحيم.
وهذا باب رسول الله صلّى الله عليه وآله وصيّه المهدي في عرفات!
فهل يهتدي القلب من بين مشتبك الغرائز، وتلاطم أمواج الأهواء، وكلّ هذا الضجيج، أن يجيد الوقوف بهذا الباب؟
ولك كل الحقّ أن تقول: إن كان الوصول مطلوباً منّا، فمن ذا يمكنه الوصول؟
ولكن أيها العزيز: أليس الصدق في الطلب مطلوباً منّا؟
فهل يصدق الطلب؟ هل يصدق القلب في التضرّع مقراً بالعجز عن الوصول؟
ليس موحّداً مَن كان يظن أنه هو الذي يصل، فالأنا البغيضة تحجب التوحيد.
وليس موحّداً مَن استبدّ به اليأس وأقعده الإحباط.


إنّما الموحّد الذي أقرّ بالعجز عن الوصول، يئس من نفسه يقيناً، فإذا معقد الأمال لديه، ومعاكف الهمم، ومحط الرحال جود الله تعالى وكرمه، ولطفه عزّ وجلّ والحنان الغامر الرحيم، ليستشعر هذا القلب، أو الخرقة البالية –لا فرق- بصدق، ولو مرة واحدة، هذه الحال:
«اإلـهي اِنْ لَمْ تَبْتَدِئنِي الرَّحْمَةُ مِنْكَ بِحُسْنِ التَّوْفيقِ، فَمَنِ السّالِكُ بي إلَيْكَ في واضِحِ الطَّريقِ، وَإنْ أسْلَمَتْني أناتُكَ لِقائِدِ الأَمَلِ وَالْمُنى فَمَنِ الْمُقيلُ عَثَراتي مِنْ كَبَواتِ الْهَوى، وَإنْ خَذَلَني نَصْرُكَ عِنْدَ مُحارَبَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطانِ، فَقَدْ وَكَلَني خِذْلانُكَ إلى حَيْثُ النَّصَبُ وَالْحِرْمانُ.
إلـهي أتَراني ما أتَيْتُكَ إلاّ مِنْ حَيْثُ الآمالِ، أمْ عَلِقْتُ بِأطْرافِ حِبالِكَ إلاّ حينَ باعَدَتْني ذُنُوبي عَنْ دارِ الْوِصالِ، فَبِئْسَ الْمَطِيَّةُ الَّتي امْتَطَتْ نَفْسي مِنْ هَواهـا، فَواهاً لَها لِما سَوَّلَتْ لَها ظُنُونُها وَ مُناها، وَ تَبّاً لَها لِجُرْأتِها عَلى سَيِّدِها وَ مَوْلاها.
إلـهي قَرَعْتُ بابَ رَحْمَتِكَ بِيَدِ رَجائي، وَ هَرَبْتُ إلَيْكَ لاجِئاً مِنْ فَرْطِ أهْوائي، وَعَلَّقْتُ بِأطْرافِ حِبالِكَ أنامِلَ وَلائي، فَاْصْفَحِ اللّـهُمَّ عَمّا كُنْتُ أجْرَمْتُهُ مِنْ زَلَلي وَخَطائي، وَأقِلْني مِنْ صَرْعَةِ رِدائي، فَإِنَّكَ سَيِّدي وَمَوْلاي وَمُعْتَمَدي وَرَجائي، وَأنْتَ غايَةُ مَطْلُوبي وَمُناي في مُنْقَلَبي وَمَثْواي». [من دعاء الصباح المروي عن أمير المؤمنين عليّ عليه صلوات الرحمن]
أيّها العزيز، والعمل الأول والأخير الذي هو في الحقيقة جوهر كلّ عمل في يوم عرفة، هو حسن الظن بالله تعالى، وطرد اليأس وسوء الظنّ به عزّ وجلّ.ففي الرواية عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: «وإذا وقفت بعرفات إلى غروب الشمس فلو كان عليك من الذنوب مثل رمل عالج وزبد البحر لغفَرَها اللهُ لك».
وعن الإمام الباقر عليه السلام: «ما يقف أحدٌ على تلك الجبال برٌّ ولا فاجرٌّ إلّا استجاب الله له، فأمّا البرّ فيُستجاب له في آخرته ودنياه، وأمّا الفاجر فيُستجاب له في دنياه».
ولا يقتصر الأمر في شمول الرحمة على الحاضرين، بل يمتد منهم إلى غيرهم:
قال الصادق عليه السلام: «ما من رجلٍ من أهل كورة وقف بعرفة من المؤمنين، إلّا غفر الله لأهل تلك الكورة من المؤمنين، وما من رجلٍ وقف بعرفة من أهل بيت من المؤمنين إلّا غفر الله لأهل ذلك البيت من المؤمنين».


لذلك كان أشدّ الناس جرماً مَن يقنط من رحمة الله تعالى في يوم عرفة:
وأعظم الناس جرماً من أهل عرفات الذي ينصرف من عرفات وهو يظنّ أنه لم يغفر له، يعني الذي يقنط من رحمة الله عزّ وجلّ.
وأختم هنا ببشارة لمن تكرّر حجّه ثمّ لم يوفق في بعض الأعوام للحجّ:
*قال الصادق عليه السلام: «إذا كان عشيّة عرفة بعثَ الله عزّ وجلّ ملكَين يتصفحّان وجوه الناس، فإذا فقدا رجلاً قد عوَّد نفسَه الحج، قال أحدهما لصاحبه: يا فلان ما فعل فلان؟
قال: فيقول: الله أعلم، فيقول أحدهما: اللّهمّ إن كان حبَسَه عن الحجّ فقرٌ فأغنه، وإن كان حبَسَه دَينٌ فاقضِ عنه دَينه، وإن كان حبَسَه مرضٌ فاشفِه، وإنْ كان حبَسَه موتٌ فاغفر له وارحمه».
ولا بد من التذكير بأن أعمال يوم عرفة تستغرق الوقت كله من الظهر إلى الليل، فليحرص المؤمن عليها، وليهيّئ الأدعية المتعددة لهذا اليوم، بالإضافة إلى الدعاء المركزي دعاء الإمام الحسين عليه السلام، ولا ينس دعاء عرفة للإمام السجاد عليه السلام.

ــــــ
مجلة شعائر

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة