من التاريخ

مسلم بن عقيل (1)

 

لم يكن الشهيد مسلم بن عقيل شابّاً كما يذكر البعض، وبالتالي لم تكن تنقصه التجربة، كما ربّما يتصور بعضٌ آخر، ولا كانت رسالته إلى الإمام الحسين عليه السلام من الطريق إلى الكوفة يستعفيه، كما تُعرض.
ولم يخطئ التقديرَ في الكوفة إطلاقاً في أيٍّ من مراحل وجوده فيها، سواء عندما لم يقتل ابن زياد - إن ثبت أصلاً وجود تلك المحاولة – أو عندما كتب إلى الإمام يطلب منه القدوم، أو في تأخير الهجوم على القصر.
الأسرة
 والده: عقيل بن أبي طالب، الذي كان أكبر من أخيه لأبيه وأمّه، الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بعشرين سنة. روى الصدوق بسنده عن ابن عبّاس، قال: «قال عليٌّ عليه السلام، لرسول الله صلّى الله عليه وآله: يا رَسولَ اللهِ! إِنَّكَ لَتُحِبُّ عَقيلاً! قالَ: إي وَاللهِ، إِنّي لَأُحِبُّهُ حُبَّيْنِ، حُبّاً لَهُ، وَحُبّاً لِحُبِّ أَبي طالِبٍ لَهُ، وَإِنَّ وَلَدَهُ لَمَقْتولٌ في مَحَبَّةِ وَلَدِكَ..».
والدته: معرفة عقيل بالأنساب مشهورة، وكذلك اقتراحه «أمّ البنين» على أمير المؤمنين عليه السلام، ما يفتح الباب أمام التساؤل عن العلاقة بين اختيار أمّ الشهيد مسلم ونهضة سيّد الشهداء، واحتمال أن يكون الشهيد مسلم كأبي الفضل، قد لوحظ عند اختيار عقيل والدته [أي والدة الشهيد مسلم]، المهمّة الكربلائية التي سيقوم بها.
وهناك اختلاف في المصادر في أكثر من مورد - منها الاسم - وأنّ أم الشهيد لم تكن أَمَةً «أم ولد»، بل هي حرّة من المنطقة الواقعة بين العراقَين الكوفة والبصرة، فهي بالتالي من أصول إيرانية. والأرجح أنّها من النبَط الذين رُوي عن الإمام عليّ عليه السلام، أنّهم قوم نبيّ الله إبراهيم عليه السلام.
والشهيد مسلم وإخوته وأخواته يبلغون العشرين لأمّهات شتّى، إلّا أنّ إخوته لأمّه هم - على ما ذكر ابن سعد: عبد الله، وعبد الرحمن، وعليّ الأصغر، وأمّهم «خليلة».


ملامح من شخصية الشهيد مسلم
يجزم المتأمّل في سيرة الشهيد مسلم بن عقيل، وبمنتهى اليُسر، أنّه من معدن «أهل البيت» عليهم السلام، هو من سرب الحمزة أسد الله وأسد رسوله، وجعفر الطيّار ذي الجناحين، وهو ما تكشفه كلمة سيّد الشهداء التاريخية في حقّه: «أخي، وَثِقَتي مِنْ أَهْلي»، وما تحمله من دلالة على عظيم منزلة هذا الشهيد القائد، فهي جديرةٌ بأن تكون القاعدة لكلّ مقاربة لأبعاد شخصيّته المحمّدية النوعية، التي من ملامحها أنّه:
1-  مِن أشبه الناس برسول الله صلّى الله عليه وآله: فقد قال فيه ابن حبّان: «مسلم بن عقيل بن أبي طالب الهاشميّ، كنيته أبو داود، وكان أشبه ولد عبد المطلب بالنبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم». وأورد ذلك أيضاً ابن حجر في شرحه على (صحيح البخاري).
2- العالِم: ليس كلّ من يُروى عنه علمٌ بعالم، إلّا أنّ من ثبت له من سموّ المنزلة بعضُ ما ثبت للشهيد مسلم يجدر التوقّفُ عندما يرد في كتب العلماء من قولهم فيه: «سمع منه»، أو «روى عنه». قال البخاري: «صفوان بن موهب سمعَ مسلمَ بن عقيل، روى عنه عمرو بن دينار وعطاء». وقال الرازي: «صفوان بن موهب، مكّيّ، روى عن مسلم بن عقيل».
3- الزاهد: إنّ اجتناب المتصدّي للمسؤولية العامّة تناولَ شيء - ولو يسير - من المال العامّ، يكشف عن درجة متقدّمة من الزهد، والإشارة إلى زهد الشهيد مسلم بن عقيل يحملها النصّ الذي يتحدّث عن وصيّته على أبواب الشهادة، حين قال لابن سعد عن مبلغٍ استدانه في الكوفة. جاء في تاريخ الطبري: « فقال له: إنّ عليَّ بالكوفة ديناً استدنتُه منذ قدمت الكوفة، سبعمائة درهم فاقضها عنّي». فهو قد استدان عند مجيئه للكوفة بالرغم من أنّ الأموال كانت تفِد إليه.
4-  العابد: هناك نصوص عدّة تحمل إشارات مهمّة في هذا الجانب من شخصيّة الشهيد مسلم، منها:
* التزامه الدعاء، بحيث يقول النصّ الذي يروي حاله عند الهجوم على بيت طوعة: «فلمّا سمع مسلم صهيل الخيل عجّل في دعائه الذي كان مشغولاً به».
* تسليمه لأمر الله تعالى واستعداده لملاقاته عزّ وجلّ عندما كان يقاتل المهاجمين، فقد كان يرتجز:
هُوَ المَوْتُ فَاصْنَعْ وَيْكَ مَا أَنتَ صَانِعُ
فَأَنْتَ بِكَأسِ المَوْتِ لا شَكَّ جَارِعُ
فَصَبْراً لِأَمرِ اللهِ جَلَّ جَلالُهُ
فَحُكْمُ قَضاءِ اللهِ فِي الخَلْقِ ذَائِعُ
                       
* النصّ الذي يتحدّث عن لحظة صعود جلاوزة ابن زياد به إلى أعلى القصر، حيث يقول: «فصُعد به وهو يكبِّر ويستغفر ويصلّي على ملائكة الله ورُسله، وهو يقول: اللَّهُمَّ احكُمْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَومٍ غَرّونا وَكَذَّبونا وَخَذَلونا».
5- القائد الجهادي: وهو ما تكشِف جانباً منه مواجهتُه البطولية النادرة حين أُحيط به في الكوفة، فقد ظهر أنّه فارس صقلته التجارب، وهو الذي شارك مع عمّه أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين، وهناك بعض النصوص عن مشاركات له في فتح مصر.

6- والد الشهداء الأربعة: بحسب أكثر المؤرخين فإنّ الشهيد مسلماً صاهر عمّه أمير المؤمنين عليه السلام مرّة، وقد استُشهد اثنان من أولاده مع سيّد الشهداء في كربلاء، وبحسب بعض المؤرّخين، فقد صاهر الشهيد عمّه مرتين، واستُشهد من أولاده أربعة: اثنان منهم في كربلاء، واثنان بعدها. قال السيّد المقرّم: «تزوّج مسلم رقيّة بنت أمير المؤمنين عليه السلام فولدت له عبد الله وعليّاً، و[من أولاده] محمّد من أمّ ولد، وأمّا مسلم [ولده] وعبد العزيز، فلم يعيّن ابنُ قتيبة أمّهما، وله بنت اسمها حميدة، أمّها أمّ كلثوم الصغرى بنت أمير المؤمنين، وحيث لا يصحّ الجمعُ بن الأختين فلا بدّ من فراق إحداهما أو موتها».
 

مهمّة الشهيد مسلم في الكوفة
توجّه مسلم بن عقيل رضوان الله تعالى عليه إلى الكوفة، لينفّذ مهمّة محدّدة رسمها له الإمام الحسين عليه السلام، فبعد أن اجتمعت عند الإمام كتب الكوفيّين، كتبَ مع هانئ بن هانئ وسعيد بن عبد الله، وكانا آخر الرسل: « بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مِنَ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ إِلى المَلَأِ مِنَ المُسْلِمينَ وَالمُؤْمِنينَ، أَمّا بَعْدُ، فَإِنَّ سَعيداً وَهانِياً قَدِما عَلَيَّ بِكُتُبِكُمْ، وَكانا آخِرَ مَنْ قَدِمَ عَلَيَّ مِنْ رُسُلِكمْ، وَقَدْ فَهِمْتُ كُلَّ الذي اقْتَصَصْتُم وَذَكَرْتُمْ. وَمَقالةُ جُلِّكِمْ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْنا إِمامٌ؛ فَأَقْبِلْ لَعَلَّ اللهَ يَجْمَعُنا بِكَ عَلى الهُدى وَالحَقِّ. وَإِنّي باعِثٌ إِلَيْكُمْ أَخي وَابْنَ عَمّي وَثِقَتي مِنْ أَهْلِ بَيْتي [وَأَمَرْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيَّ بِحالِكُمْ وَرَأْيِكُمْ]..».
وفي نصّ للخوارزمي: «ثمّ طوى الكتاب وختمه، ودعا بمسلم بن عقيل، فدفع إليه الكتاب وقال: إِنّي مُوَجِّهُكَ إِلى أَهْلِ الكوفَةِ، وَسَيَقْضي اللهُ مِنْ أَمْرِكَ ما يُحِبُّ وَيَرْضى، وَأَنا أَرْجو أَنْ أَكونَ أَنا وَأَنْتَ في دَرَجَةِ الشُّهَداءِ، فَامْضِ بِبَرَكَةِ اللهِ وَعَوْنِهِ حَتّى تَدْخُلَ الكوفَةَ، فَإِذا دَخَلْتَها فَانْزِلْ عِنْدَ أَوْثَقِ أَهْلِها، وَادْعُ النّاسَ إلى طاعَتي، فَإِنْ رَأَيْتَهُمْ مُجْتَمِعينَ عَلى بَيْعَتي، فَعَجِّلْ عَلَيَّ بِالخَبَرِ، حَتَّى أَعْمَلَ عَلى حَسبِ ذَلِكَ إِنْ شاءَ اللهُ تَعالى. ثمّ عانقه الحسين وودّعه، وبكيا جميعاً».
وأصرّ مسلمٌ أن يفتح مساره الكربلائي متبرّكاً بزيارة المصطفى صلّى الله عليه وآله، فتوجّه من مكّة إلى المدينة التي لم يكن دخوله إليها في مثل تلك الظروف أمراً سهلاً، قال المفيد في (الإرشاد): «فأقبل مسلم حتّى أتى المدينة، فصلّى في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وودّع مَن أحبّ من أهله، ثم استأجر دليلَين من قيس، فأقبلا به يتنكّبان الطريق». أي يتجنّبان الطريق العامّ لأنّ طبيعة المهمّة تقتضي ذلك.
ــــــــــ
كتاب (في محراب كربلاء - أحداث الكوفة) الشيخ حسين كوراني.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة