مقالات

نحن ما ضيعَّنا الحسين

 

سليمان كتاني
نحن ما ضيعَّنا الحسين حتَّى نُفتِّش عنه، لقد عرفنا مُنذ الوَهلة الأُولى أنَّه دائمًا في المسجد، حيث الرسالة التي هي صوت جَدِّه، وضمير القضيَّة في وحدة الأُمَّة، ولكنَّنا رحنا نُفتِّش عن الأزاميل التي نحتته وصاغت منه بطلاً ما نسجت مثله أنوال الملاحم .. . 
مُنذ الطفولة وأحضان منسولة مِن الحُلم، والرمز، وضمير القصد، تدغدغ الحسين وتتدغدغ به، كأنَّه حِضن الحُلم، والرمز، والقصد، لدغدغة أُخرى تهجُّ في ضميرها ديمومة تتلقَّط بها إمامة، ما كان الحسين الطفل إلاَّ ويشعر بها وهو يحتويها، وما كان ينمو ويتنامى إلاَّ بها، أكان في حِضن أُمِّه وهو يمتصُّ ثديها ويشعر أنَّها ـ بكامل ما فيها مِن دمٍ ولحمٍ وعطرٍ ـ نعيم لا يجفُّ لها عطفٌ، ولا حُبٌّ، ولا شوقٌ، ولا جمال، أم كان في حِضن أبيه الذي يشيع عليه مَهابة لا تتسربل بمثلها إلاَّ مداميك القلاع أو أبراج الحصون، أمَّا جَدُّه المُتمنطق بآيات الجلال، فإنَّه كان يمرح فوق منكبيه وهو يشعر كأنَّ النجوم تتساقط مِن أبراجها إلى عِبِّه، وما أنْ ينزل عن المنكبين إلى الأرض حتَّى يركض كالولهان إلى حِضن أخيه الحسن، ليُفرغ مِن عِبّه إلى عِبِّه الآخر، كلَّ ما جناه مِن سلال جَدِّه المليئة بالعَطف، والرغد، والزُّهد المُجمَّع عن شاطئ الكوثر .
مِن يوم إلى يوم كان يعقد الزهر في روض الحسين ويُثمر، ومِن عهدٍ إلى عهدٍ كانت تنجلي أمام عينيه ملامح الرؤى، وما تتغلَّف بها الضمائر، وكانت الأحداث تتفتَّح عن مكامنها ومقاصدها بين يديه، وهو يجلوها بما هو مرهوب به مِن عقل، هو ذخيرة ربِّه في أنقى عباده.


وإنْ كنَّا نؤمن بالعقل السليم طاقة تُحقِّق الفَهم والإدراك، ولكنْ للجوِّ الحميم الذي ولِدَ فيه الحسين ـ مع كلِّ الذبذبات المُتجانسة التي رافقته بجميع تأوّداتها، مُنذ الطفولة إلى كلِّ عهد آخر تزيَّن بالصَبْوة، والشباب، والرجولة، تأثيرات بليغة الوطء وبارزة الأداء، في عمليَّات التكييف، والشحذ، والتوجيه ـ كانت كلُّها بساطاً مُرتاحاً لهذه العقليَّة التي وصِفَت بأنَّها سليمة وباكرة النُّضج، وأنَّه لمِن المُثير أنْ نلمح إلى شيء مِن هذه التأثيرات المبثوثة في الجوِّ الذي نشأ فيه الحسين، وكيف كان لها فعل إيحائي ترهَّف به عقله، وحِسَّه، وتكوينه النفسي، وكيف انطبعت به نزعاته، وميوله، في النهج والتعبير .
مِن المشهور والمشهود له، أنَّ لطفولة الحسين تعهُّداً مُهتمَّاً ومُتفرِّداً عن المثيل، ولقد اشترك في مثل هذا التعهُّد المُمتاز: الجَدًّ، والأبُ، والأُمُّ في إخراج موحَّد لا يُشير إلاَّ إلى وحدة القصد الذي يجتمع عليه الثلاثة، فكان واحداً في اللون، وواحداً في النوع، وواحداً في التوجيه، وواحداً في لمِّ الأخوين إلى مُشتركٍ واحدٍ دون أيِّ فرقٍ أو تمييز، كأنَّهما واحد في التنشئة والتربية، وكان الواحد منهما هو المُكمِّل للآخر، على بُنية في المزاج تبقى ـ أبداً ـ منقوصةً إنْ لم يَنجدل خيطها بالخيط الآخر، ليكونا حُبكةً واحدة في فتيلة السراج، لقد كان الحسن والحسين ـ فعلاً ـ شخصين بمِزاجين، ولكنَّهما كانا في وحدة فِكريَّة روحيَّة رائعة الاندماج، جمعتهما إلى القصد الواحد، ليكونا أخراجاً واحداً لذلك القصد الأكبر، الذي جال في بال النبي وهو يزفُّ إلى إنسان الجزيرة رسالة تجمعه مِن تيهه المُشرَّد إلى مُجتمعه المُوحَّد .


لقد تمَّ تأليف الأُمَّة وتوحيدها بعد بذل العرق والدم، وتمَّ الانتصار على كلِّ ما كان يُعرقل سير القافلة الكبيرة على دروب الحياة، وتمَّ القضاء على كلِّ تشويش كانت تتعنتر به القبليَّة، وتشقُّ الأُمَّة وتُبعثرها إلى ألف، وجاء التدبير الأوحد وألاحكم، بإلقاء زمام التحكُّم والتعهُّد على رجل واحد مُرِّسَ بالإيمان، والفكر، والتوجيه، والعَزم، والإرادة . 
إنَّ هذا الرجل هو الذي يُمثِّل الخلافة المصقولة بالإمامة، وهو الذي يمنع ـ وحده ـ رجوعاً إلى زعامات تقليديَّة يدعمها ـ مِن هنا وهناك ـ عدد لا يُحصى مِن القبائل، وهو الذي يُمثِّل رسالة ما نجح غيرها في المُجتمع، وهو الذي ينقدُّ ضلعاً أميناً مِن الرسالة، وشَفرةً كريمةً مِن مَعدنها الأصيل، وحارساً أميناً لعهودها المُرتبطة بالصدق والحَقِّ .
لقد تمَّ تعيين البيت الذي يحَضن الرسالة المُنبثقة مِن قلب الجوهر، أمَّا النبيُّ العظيم، وابنته التي كأنَّها جُبلت خصيصاً بطبيعتها الأنيقة ونفسها الكريمة، وابن العَمِّ الذي ذابت كلُّ أجيال الجزيرة حتَّى أفردته فريداً في الصدق والعقل والعَزْم والبطولة، هُمْ الآن الفاهمون القصد، والمُجتمعون على تنفيذه؛ لأنَّه هو وحده المستجيب لحقيقة الرسالة، التي كانت ترجمة صادقة لمُجتمع تحقَّق والْتَمَّ، وتمَّ أيضاً ملء البيت بالفتيلتين المؤلِّفتين سلك النور الذي سيستضيء به خَطُّ الرسالة والإمامة، فلتكن لنا مُرافقة الحسين حتَّى تستقيم معه مُتابعة الدراسة، فهو صاحبنا الآن في الرفقة الكريمة .

 

أقول : ثلاثة هُمْ الراسمون القصد، وهُمْ وحدهم الفاهمون، وهُمْ الذين يُخرجونه بالمَبنى وبالمعنى، وبوضح النهج، أمَّا الحسين الطفل، فهل كان له أنْ يعرف أنَّه هو القصد المُضمر؟ وأنَّه هو الذات المُستترة في البال وخَلف البال، وفي الحُلم، وفي الأبعَد منه، وفي البيت، وفي الأرفع والأفسح مِن سقفه ؟ ولكنْ مَن يقول : إنَّ ليس للطفولة إدراك مُخبَّأ في الحِسِّ، والشعور وطويَّة الذات، وهو الذي يتغذَّى مِن كلِّ ما يحتكُّ به، لينطلق مُعبِّراً عنه ؟
ونقول : إنَّ كلَّ ما احتكَّت به طفولة الحسين، هو الذي كان ذُخراً في حِسِّه وشعوره وطوية نفسه، وهو الذي ترسَّخ به عقله وقلبه وفكره، وهو الذي تركَّز به واستقام رأيه، واقتناعه ونهجه، وهو الذي عبَّر عنه في كلِّ كلمة قالها، وفي كلِّ عَزم مسح به إرادته وروحه وصلابته، في الاقتحام والاحتمال، لقد أصبح الجوُّ الذي رُبِّي وترعرع فيه الحسين، كلُّ الحسين إنَّه في آنٍ واحد .. .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة