مقالات

الإمام الحسين.. نور بلا حدود (1)

 

 أنطوان بارا
• الهزّة العظيمة
لم تَحْظَ ملحمةٌ إنسانيّة في التاريخَين: القديمِ والحديث، بمِثل ما حَظِيَت ملحمةُ الاستشهاد في كربلاء، من إعجابٍ ودرسٍ وتعاطف؛ فقد كانت حركةً على مستوى الحادث الوجدانيّ الأكبر لأمّة الإسلام بتشكيلها المنعطفَ الروحيّ الخطيرَ الأثر في مسيرة العقيدة الإسلاميّة، والتي لولاها لكان الإسلام مذهباً باهتاً يُركَنُ في ظاهر الرؤوس، لا عقيدةً راسخةً في أعماق الصدور، وإيماناً يترعرع في وجدان كلّ مسلم.
لقد كانت ( كربلاء ) هزّة، وأيّة هزّة! زلزلت أركانَ الأمّة مِن أقصاها إلى أدناها، ففتّحت العيون، وأيقظت الضمائرَ على ما لسطوةِ الإفك والشرّ من اقتدار، وما للظلم من تلاميذ على استعدادٍ لزرع ذلك الظلم في تلافيف الضمائر؛ ليغتالوا تحت سُتُرٍ مزيّفة قيمَ الدِّين، وينتهكوا حقوقَ أهليه(1).


• المسيرة الخالدة
ألم يَعُوا كيف تحوّلت هذه الملحمة العظيمة ( ملحمة كربلاء ) بتقادم العهد عليها، إلى مسيرة.. وكيف صارت الشهادة التي أقدَم عليها الحسينُ عليه السّلام وآلُ بيته وصحبُه الأطهار، إلى رمزٍ للحقّ والعدل.. وكيف صار الذبيح بأرض كربلاء، مَناراً لا ينطفئ لكلّ متطلّعٍ باحثٍ عن الكرامة التي خصّ بها سبحانه وتعالى خَلْقَه بقوله: « ولَقَد كرَّمْنا بَني آدَمَ »؟!(2)
والسيرة العطرة لحياة سيّد شباب أهل الجنّة واستشهاده الذي لم يُسجِّل التاريخُ شبيهاً له.. كان عنواناً صريحاً لقيمة الثبات على المبدأ، وعظمةِ المثاليّة في أخذ العقيدة وتمثُّلِها، فغدا حبُّه كثائرٍ واجباً علينا كبشر، وحبُّه كشهيدٍ جزءً من نفثات ضمائرنا. فقد كان ( الحسين ) عليه السّلام شمعة الإسلام، أضاءت ممثِّلةً ضمير الأديان إلى أبد الدهور، وكان درعاً حَمى العقيدةَ مِن أذى مُنتهكيها، وذبَّ عنها خطرَ الاضمحلال، وكان انطفاؤه ( أي شهادته ) فوق أرض كربلاء مرحلة أُولى لاشتعالٍ أبديّ، كمَثَل التوهّج من الانطفاء، والحياة في موت(3).


 • الغليان الدائم
هي ثورة بدأت ساخنة، واستمرّت محافظةً على سخونتها.. طالما ثَمّة ظلمٌ فوق هذا الكوكب، وطالما ثمّة فسادٌ في الحكم، وطالما ثمّة عبثٌ في العقائد. وهي ثورة لن تبرد أبداً، بل هي في غَلَيان دائبٍ.. سيّما في هذا العصر، عصرِ الضَّنك والظلم والاضطهاد والترويع لشعوبٍ كثيرة، حيث انتُهِكت الحريّات، وبان جليّاً العبثُ في العقائد والأديان، بل واستغلال هذه الأديان في تثبيت المفاسد والانتهاكات البشريّة.
فالحسين عليه السّلام ثارَ مِن أجل الحقّ، والحقُّ لكلّ الشعوب.
والحسين عليه السّلام ثار مِن أجل مرضاة الله، وما دام الله خالق الجميع، فكذلك ثورة الحسين لا تختصّ بأحدٍ معيّن، بل هي لكلّ خَلْق الله... المظلومون والمضطهدون والمقهورون والمروَّعون من كلّ المذاهب والبقاع.. يتوجّهون في كلّ رغباتهم إلى جوهر ثورة الحسين عليه السّلام، ففي اتّجاههم الفطريّ ورودٌ إلى منبع الكرامة والإنصاف والعدل والأمان.
وما دامت قد تعيّنت ماهيّة ثورة الحسين عليه السّلام بهذه ( المعاني ).. أفَلا يَجدر اعتبار الحسين شهيداً: للإسلام والمسيحيّة واليهوديّة، ولكلّ الأديان والعقائد الإنسانيّة الأخرى ؟!(4)
• قال قسّيس مسيحيّ: لو كان الحسين لنا، لَرفَعْنا له في كلّ بلدٍ بَيْرقاً، ولنصَبْنا له في كلّ قريةٍ مِنْبراً، ولَدَعْونا الناس إلى المسيحيّة باسم « الحسين »(5).
 

 • حركة الحسين.. شهادة للإسلام الحقّ
جديرٌ بقدسيّة رسالة الحسين عليه السّلام، أن يقدّمها العالَمُ الإسلاميّ كأنصع ما في تاريخ الإسلام، إلى العالَم المسيحي، وكأعظم شهادةٍ لأعظم شهيدٍ في سبيل القيم الإنسانيّة الصافية الخالية من أيّ غرضٍ أو إقليميّة ضيّقة، وكأبرز شاهدٍ على صِدق رسالة محمّدٍ « صلّى الله عليه وآله » وكلِّ رسالات الأنبياء السابقين.
وليس أدلّ على ما لسحر شهادة الحسين عليه السّلام من قوةِ جذبٍ للشعور الإنسانيّ، من حادثة رسول القيصر إلى يزيد، حينما أخذ يزيد ينكث ثغر الحسين الطاهر بالقضيب على مَرأىً منه، فما كان من رسول القيصر إلاّ أن قال له مستعظِماً فِعلتَه: إنّ عندنا في بعض الجزائر حافرَ حمار عيسى، ونحن نحجّ إليه في كلّ عام من الأقطار ونهدي إليه النذورَ ونعظّمه كما تعظّمون كتبكم، فأشهَدُ أنّكم على باطل!(6) فأغضب يزيدَ هذا القول، فأمر بقتله، فقام رسول القيصر إلى الرأس الطاهر وقبّله، وتشهّد الشهادتين ( أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله )، وعند قتله سمع أهلُ المجلس من الرأس الشريف صوتاً عالياً فصيحاً يردّد: لا حولَ ولا قوّة إلاّ بالله! »(7).
وحادثة أخرى دفعت براهبٍ مسيحيّ لأن يبذل دراهم مقابل تقبيل رأس الشهيد، وكان ذلك عند نصب الرأس على رمحٍ إلى جانب صومعته، وفي أثناء الليل سمع الراهب تسبيحاً وتهليلاً، ورأى نوراً ساطعاً من الرأس المطهَّر، وسمع قائلاً يقول: « السلام عليك يا أبا عبدالله »، فتعجّب حيث لم يعرف الحال.

وعند الصباح استخبر الراهبُ القومَ فقالوا له: إنّه رأس الحسين بن عليّ ابن فاطمة بنت النبيّ محمّد، فقال لهم: تَبّاً لكم أيّتُها الجماعة! صَدَقتِ الأخبار في قولها: إذا قُتِل تَمطُر السماءُ دماً!
وأراد منهم أن يقبّل الرأس فلم يُجيبوه إلاّ بعد أن دفع إليهم دراهم، ولمّا ارتحلوا عن المكان نظروا إلى دراهم الراهب فإذا مكتوبٌ عليها: وسَيَعلمُ الذينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلبون (8).
فبداهةُ القول: أنّ أيّ فكرٍ إنسانيٍّ يطّلع على السيرة العطرة لسيّد الشهداء، لابدّ وأن تتحرّك في وجدانه نوازعُ الحبّ لهذا الشهيد المثاليّ، كما تحرّكت شبيهةُ هذه النوازع في قلبَيْ كلٍّ من: رسول القيصر، والراهب. ففي أعماق كلّ إنسان لواقطُ خفيّة تلتقط أدنى إشارات العظمة والقداسة خُفوتاً.. فكيف بأقواها تلك المتعلّقة بشخص سيّد الشهداء، والمنبعثة ـ رغم السنين والقرون ـ مِن كلّ كلمةٍ في سِفْر حياته وكفاحه وشهادته، والتي تستهوي أشدَّ القلوب ظلامةً للتفاعل معها، وتُوقظ أشدَّ الضمائر موتاً لاستلهامها والسير على هُدى أنوارها السَّنيّة ؟!(9)
 ـــــــــــــــــ
1 ـ ص 59.
2 ـ سورة الإسراء:70.
3 ـ ص 65.
4 ـ ص 71.
5 ـ ص 72.
6 ـ الصواعق المحرقة لابن حجر 119.
7 ـ مثير الأحزان لابن نما. مقتل الحسين عليه السّلام للخوارزميّ 72:2.
8 ـ تذكرة خواصّ الأمّة لسبط ابن الجوزيّ 150. والآية في سورة الشعراء:227.
9 ـ ص 85 ـ 87.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة