علمٌ وفكر

إثبات الذات الإلهية (2)

 

الدكتور عبد الهادي الفضلي
الإرشاد القرآني للاستدلال:
وإلى هذا النمط من الاستدلال - وهو الاستدلال بالآثار على المؤثر، أو بالموجودات على الموجد - أشارت الآية الكريمة: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] بمعنى أن النظر والتدبر والتفكر في ملكوت السموات والأرض، وما فيه من آيات كونية لا بد من أنها ستنتهي إلى معرفة الحق، والدلالة بوجودها على موجدها.
وإلى ما أرشد إليه القرآن الكريم في هذه الآية وأمثالها من النظر والتفكير في مخلوقات اللّه تعالى وآياته في الآفاق وفي الأنفس بغية الوصول إلى معرفة أنه هو الإله الخالق المعبود وحده، يشير الإمام الحسين (عليه السلام) في دعائه المعروف بدعاء يوم عرفة بما يوضح المقصود من ذلك سلوكاً وغاية، يقول عليه السلام: «إلهي علمتُ باختلاف الآثار وتنقلات الأطوار، أن مرادك مني أن تتعرّف إليّ في كل شيء حتى لا أجهلك في شيء».
والآية الكريمة - كما يظهر من آخرها - أنها بعد أن ترشد الإنسان وتنبهه إلى النظر في المخلوق لمعرفة الخالق، تنعى على الإنسان أن لم يلتفت إلى طريق آخر هو الذي ينبغي أن يسلك في الوصول إلى معرفة اللّه تعالى، وذلك بقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [فصلت: 53].


وهو أن يرجع الإنسان إلى فطرته التي فطره اللّه عليها، وإلى وجدانه، فسيرى - وبلا شك - أن اللّه أمام عينيه، وله من التجلي والظهور ما ليس هو بمتحقق في سواه من العالم الذي يعيش فيه هذا الإنسان ويعايش ما فيه من حوادث وآثار، فلا ينبغي له أن يقتصر في استدلاله على اتخاذ الظاهر دليلاً على الأظهر، والجلي دليلاً على الأجلى، وإنما العكس هو الأصوب.
وإلى هذا يشير الإمام الحسين (عليه السلام) في الدعاء نفسه، يقول: «كيف يستدل بما هو في وجوده مفتقر إليك؟!.. أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟ بـ.. متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟!!.. ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟!.
عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبدٍ لم تجعل له من حبك نصيباً.
إلهي أمرت بالرجوع إلى الآثار، فأرجعني إليك بكسوة الأنوار، وهداية الاستبصار، حتى أرجع إليك منها، كما دخلت إليك منها، مصون السر عن النظر إليها، ومرفوع الهمة عن الاعتماد عليها، إنك على كل شيء قدير».
وكذلك الآية التالية {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164].
فإنها ترشد إلى ما في هذه الآثار من دلالة عقلية على وجود مؤثرها.


وطريقة الاستدلال بالآثار على المؤثر أو بحدوث العالم على صانعه، هي الطريق الذي سلكه أبو الأنبياء إبراهيم الخليل (عليه السلام) لإثبات الألوهية للّه تعالى، كما حكاه القرآن الكريم في الآيات التاليات:
{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام: 75 - 79].
قال الزمخشري في الكشاف: «والمعنى: ومثل ذلك التعريف والتبصير نعرّف إبراهيم ونبصّره ملكوت السموات والأرض - يعني الربوبية والألهية - ونوقفه لمعرفتها ونرشده بما شرحنا صدره وسددنا نظره وهديناه لطريق الاستدلال - وليكون من الموقنين - فعلنا ذلك، و(نُري) حكاية حال ماضية، وكان أبوه آزر وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب، فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤدٍّ إلى أن شيئاً منها لا يصح أن يكون إلهاً لقيام دليل الحدوث فيها، وإن وراءها محدثاً أحدثها وصانعاً صنعها ومدبراً دبّر طلوعها وأفولها وانتقال مسيرها وسائر أحوالها»(1).

 

ودليل الحدوث فيها الذي أشار إليه الزمخشري هو «الأفول الذي هو الغيبة المستلزمة للحركة، المستلزمة للحدوث، المستلزم للصانع تعالى»(2).
وقديماً أشار الإِمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى هذه الطريقة - أعني الدلالة على قدم الخالق بحدوث المخلوقات، والدلالة بحدوث المخلوقات على وجود الخالق، قال: «الحمد للّه الذي لا تدركه الشواهد ولا تحويه المشاهد ولا تراه النواظر ولا تحجبه السواتر، الدال على قدمه بحدوث خلقه، وبحدوث خلقه على وجوده»(3).
وقال : «الحمد للّه الدال على وجوده بخلقه، وبمحدث خلقه على أزليته»(4).
 وخلاصة دليل المتكلمين الثاني:
- أيضاً بدأوا دليلهم هنا بتأليف قياس منطقي ومن الشكل الأول، وهو: كل ما سوى الواجب ممكن + وكل ممكن محدث = كل ما سوى الواجب محدث .
- ثم قالوا: لا يتم الاستدلال بهذا القياس إلا بعد إثبات صحة مقدمتيه.
- واستدلوا على صحة المقدمة الأولى وإثبات مؤداها بنفس دليل تقسيم الموجود إلى واجب لذاته وممكن لذاته، وقد تقدم هذا في موضوع المواد الثلاث.
- واستدلوا لإثبات صحة المقدمة الثانية بأن قالوا:
إن الممكن - بما هو ممكن - محتاج في وجوده إلى موجد.
وكذلك أن «الممكن لا يمكن أن يوجد حال وجوده» لأن هذا من تحصيل الحاصل، وهو محال.
«فيلزم منه أن يوجد حال لا وجوده فيكون وجوده مسبوقاً بلا وجوده».
وهذا هو معنى حدوثه لأن الحادث هو المسبوق بالعدم.
« وإذا ثبت كون ما سوى الواجب محدثاً، وكان احتياج كل محدث إلى محدث يوجده ضرورياً، ثبت أن لجميع العالم من الأجسام والأعراض وما سواهما من الممكنات محدثاً، وهو المطلوب»(5).


دليل الحكماء:
أما الحكماء فقالوا:
«إن الموجودات تنقسم إلى واجب وممكن. والممكن محتاج في وجوده إلى مؤثر موجد.
فإن كان موجده واجباً فقد ثبت أن في الوجود واجب الوجود لذاته.
وإن كان ممكناً كان محتاجاً إلى مؤثر آخر.
والكلام فيه كالكلام في مؤثره.. والدور محال وكذلك التسلسل»(6) فننتهي إلى أن موجد الممكنات واجب الوجود لذاته.. وهو المطلوب.
وإلى هنا نكون قد التمسنا طريقين لإثبات الذات الإلهية، هما:
1 - طريق الاستدلال العقلي.
وهو طريق المتكلمين والحكماء القائم على مبدأي العلية والقسمة.
2 - طريق الوجدان الفطري.
وهو إدراك الإنسان لوجود الذات الإلهية من واقع وجدانه وبفطرته التي فطر عليها.
وهو ما أشارت اليه الآية الكريمة: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] ، وأوضحه الإمام الحسين (عليه السلام) بقوله: (كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك... الخ).
وهنا طريق ثالث يمكننا أن نطلق عليه:
3 - طريق الاتصال النبوي.
وفحواه: أننا عندما نؤمن بنبوة النبي لظهور المعجز على يديه تكون نبوته دليلاً على وجود اللّه تعالى، لأن ادعاءه أنه مرسل من قبل اللّه تعالى قد ثبتت صحته بالمعجز، وبثبوت صحته يثبت وجود المرسل وهو اللّه تعالى.
وهو أيسر وأخصر طريق يمكن أن يسلكه كل من ثبتت عنده نبوة النبي بالمعجر، أو بالنقل المتواتر لثبوت النبوة أو ثبوت الإعجاز.
ــــــــــــ
(1) الكشاف 2/31 - 32 .
(2) النافع يوم الحشر 13 .
(3) نهج البلاغة، الخطبة 185 .
(4) نهج البلاغة، الخطبة 152 .
(5) قواعد العقائد للطوسي 443 .
(6) م . ن .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة