معنى الامتحان وأنحاؤه:
المعنى اللغوي لكلمة الامتحان هو الاستعلام، فحين يقال: امتحِنِ الرجل قبل مصاحبتِه فمعناه الأمر باستعلام حالِه لغرض الوقوف على واقعه وحقيقة مَخبَرِه قبل مصاحبته.
وللامتحان وسائل عديدة تختلفُ باختلاف الغرض من الامتحان، وتختلف باختلاف الممتحِن والممتحَن.
فقد يكون الامتحان بسؤال الممتَحِن كما يفعل المدرِّس مع طلابه، فإنَّه بسؤاله لهم يتعرَّف على مستوى اِستعدادهم وتحصيلهم. وقد يكون الامتحان بالسؤال عن الممتحَن كما هو السؤال عن المرأة التي يبتغي الرجل الزواج منها، فهو يمتحنها قبل الإقدام على الزواج منها بمعنى أنَّه يستخبِر عن حالها للوقوف على سجاياها وصفاتها.
وقد يكون الامتحان بالتجربة كأنْ تدخلَ مع رجلٍ في تجارة محدودة لتستخبِر واقعه حتى إذا ما وجدتَه أميناً صادقاً دخلتَ معه في تجارة أوسع. وقد يكون الامتحان بملاحظة ما يفعله الإنسان حين يُصاب ببليَّة أو يقع في مأزق، فتمتحنه وتستعلمُ حاله من ملاحظة مقدار تحمُّله وكيفية إدارته للمأزق الذي وقع فيه، ومِن ذلك تعرف أنَّه صبورٌ أو جزوع وأنَّه عاقل أو أحمق.
معنى الامتحان الإلهي وغايته:
وهذ هو المعنى الذي استُعمل في القرآن الكريم كثيراً تحت عنوان الامتحان والابتلاء والتمييز والافتتان والتمحيص، فكلُّ هذه المفاهيم تُعطي معنىً واحداً وهو الاستعلام والاستخبار.
قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ (1).
وقال تعالى: ﴿أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ﴾ (2).
وقال تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى﴾ (3).
وقال تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ (4).
وقال تعالى: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ (5).
ثم إنَّ استعلام اللهِ جلَّ وعلا لعباده ليس لأنَّه لم يكن عالماً بواقعهم - تعالى الله عن ذلك علوَّاً كبيراً- بل إنَّ غايته من الامتحان هو إيقاف الإنسان على واقعِه أو إيقاف الناس على واقع هذا الإنسان الممتحَن.
إذا اتَّضحت هذه المقدمة يتَّضح المراد من معنى ما ورد في الزيارة المأثورة: "يا ممتحَنةُ امتحنكِ اللهُ الذي خلقَك قبل أنْ يخلقك فوجدَك لِما امتحنِك صابرة" (6).
فإنَّ المراد من ذلك هو أنَّ الله تعالى استخبر حال السيِّدة فاطمة (ع) في الأزل فعلم أنَّها واجدة لمقام الصبر على ما سينتابُها من مصيباتٍ في الدنيا ولذلك اصطفاها.
فامتحان الله عزَّ وجل لفاطمة (ع) قبل خلقها ليس بمعنى اختبارها في ذلك العالم بل هو بمعنى علمِه بواقعها وأنَّها ستصبرُ بعد خلقها إذا ابتُليت، وإنَّما عبَّرت الرواية عن علم الله تعالى في الأزل بواقع فاطمة (ع) في الدنيا بالامتحان لأنَّ علمه بمستقبل الأمور حتميُّ الوقوع فهو لحتميَّتِه كأنه قد وقع.
لذلك نجد في القرآن أن الله تعالى يتحدَّث عمَّا سيقع في يوم القيامة وما سوف يقعُ في الجنَّة والنار وكأنَّه قد وقع فيُخبر عنه بصيغة الماضي وكأنَّه قد وقع وانتهى وما ذلك إلا لحتميَّة وقوعه.
والمتحصَّل من مفاد الزيارة المأثورة أنَّ الله تعالى علم منذُ الأزل أنَّ فاطمة (ع) ستحظى بمقام الصابرين بعد أن تُمتحن في الدنيا.
فتوصيفها بالـمُمتحنة منذ الأزل لأنَّ ذلك هو ما كان قد قُدِّر لها، ولأنَّ الذي قد قُدِّر لها سوف يقع عليها حتماً لذلك فهو منزَّل منزلة ما كان قد وقع.
الامتحان يستبطن معنى التمحيص:
ثم إنَّ الامتحان يستبطن معنى التمحيص فيقال: محَّص الذهب أي صفَّاه واستخلصه من شوائب المعادن الأخرى فأصبح ذهباً خالصاً لا شائبة فيه، ولأنَّ تمحيص الذهب يكون بتسليط النار عليه وتذويبه لغرض تنقيته وتخليصه من الشوائب لذلك يُعبّر عن هذه العملية في استعمال العرب بامتحان الذهب.
فالامتحان يكون بتسليط النار والأثر المترتِّب على ذلك هو تمييز معدن الذهب عن سائر المعادن والشوائب، فإذا تميَّز الذهب عن سائر المعادن تمكَّن الممتحِن من تخليص معدن الذهب من بين سائر المعادِن فتكون نتيجة الامتحان الاصطفاء أي اختيار معدن الذهب وإهمال ما عداه من المعادن والشوائب التي كانت عالقة وممتزجة به، فغاية الامتحان هو الاصطفاء، لذلك يُستعمل الامتحان في كلام العرب ويُراد به الاصطفاء، فمعنى إنَّ هذا الرجل ممتحَن هو أنَّه مصطفى من بين أقرانه، والتعبير عنه بالممتحَن بدلاً من المصطفى يكون لغرض الإشعار بمنشأ الاصطفاء فهو إنَّما اصطُفي دون أقرانه لأنَّه قد امتُحن، فالممتحَن هو خلاصة ما نتج عن الامتحان والتمحيص.
فاطمة (ع) ممتحنة أي مصطفاة:
وبذلك يتضح المراد من قوله: "يا ممتحنة" فإنَّ المراد من ذلك هو أنَّها المصطفاة دون أقرانها، غايته أنَّ امتحان الإنسان للأشياء أو لأخيه الإنسان يكون بالتمحيص بالنحو المناسب لكلِّ شيء يُراد امتحانه. وأما امتحان الله جلَّ وعلا فالـمُناسب له هو التأهيل ابتداءً، إذ أنَّه تعالى غنيٌّ عن التجربة والفحص والمعالجة، فمعنى أنَّه امتحن فاطمة (ع) من الأزل هو أنَّه أهَّلها أي أودع فيها الملكات التي تُميِّزها دون سائر أقرانها، فتكون بذلك جديرة بالاصطفاء والاختيار.
وبهذا يكون المراد من قوله: "يا ممتحنة امتحنك الله قبل أن يخلقك" هو أنَّ الله عزَّ وجل اصطفى فاطمة (ع) واختارها دون سواها بعد أنْ أودع فيها الملكات والكمالات التي تُؤهلها لمقام الاصطفاء.
فشأنُها في ذلك شأنُ سائر الأنبياء والأوصياء فإنَّ اصطفاءهم يكون بمعنى تأهيلهم لمقام الرسالة والوصاية ثم اختيارهم لذلك، فهم مُصطَفون منذ الأزل أي أنَّ الله تعالى منذُ الأزل علم أنه سيخلق مَن يُؤهلهم لحملِ الأعباء التي ستُناط بهم، فهم سيُخلقون مؤهَّلين لذلك.
فهو كما يعلم أنَّه سيخلق شمساً تكون مؤهلة لنشر الضياء، ويعلم أنَّه سيخلق أرضاً تكون مؤهَّلة لأنْ يحيي الإنسان على سطحِها كذلك فقد سبق علمه أنَّه سوف يخلق رجالاً ونساءً مؤهَّلين لحمل أعباء الرسالة الإلهيَّة، وذلك هو -ظاهراً - معنى: "امتحنكِ قبل أنْ يخلقك".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة العنكبوت / 2.
2- سورة التوبة / 126.
3- سورة الحجرات / 3.
4- سورة الأنفال / 37.
5- سورة آل عمران / 154.
6- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج14 / ص367-368.
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد هادي معرفة
عدنان الحاجي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد جعفر مرتضى
الشيخ فوزي آل سيف
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ جعفر السبحاني
حيدر حب الله
الشيخ علي المشكيني
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
الشيخ علي الجشي
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان